قال كعب: فلما مضت أربعون ليلة من الخمسين أرسل إلينا صلى الله عليه وسلم أن اعتزلوا نساءكم.
كل يوم تأتي داهية دهياء.
حتى كأني للحوادث صخرة بصفا المشقر كل يوم تقرع
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع
قال: فأرسل إلينا أن اعتزلوا نساءكم، قال: فأرسلت أأطلق امرأتي أم لا؟ قال: لا.
اعتزلها فقط ولا تطلقها.
قال: فذهبت امرأة هلال بن أمية -وكان شيخاً كبيراً قد عمي من كثرة البكاء- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! أتأذن لي أن أخدم هلال بن أمية -أي: أصنع له الطعام، أقرب له طعامه وشرابه- قال: نعم.
ولكن لا يقربك.
يقول صلى الله عليه وسلم: لا يقربك، وهذا جزاء ونكال وتعزير، قالت: يا رسول الله! والله ما به من حراك، مازال يبكي من ذلك اليوم إلى اليوم، ليل نهار.
لا ترقأ له دمعة، انهار تماماً.
ولذلك بعض المصائب تطم على الإنسان، حتى يبقى ليله ونهاره بكاء، يعقوب عليه السلام، وهو من الأنبياء الذي آتاهم الله العصمة وقوة القلوب، أصبح يبكي ليل نهار حتى ابيضت عيناه، يقولون: إن الملائكة كانت تبكي لبكائه، ويقولون: جبريل كان يزوره فيجلس معه يبكي، وكان يغطي يعقوب بيده على فمه ويقول:(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[يوسف:١٨] وكلما سأله بعض جيرانه من الشامتين وهم يدرون بالقصة قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)[يوسف:٨٦].
ولذلك كان أبو بكر إذا صلى بالناس صلاة الفجر وقرأ سورة يوسف وبلغ قوله تعالى:(قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)[يوسف:٨٦] انهار من شدة البكاء، وبكت معه الصفوف.
وثبت أن عمر رضي الله عنه، كان إذا قرأ سورة يوسف وبلغ قوله تعالى:(قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف:٩٢] بكى وبكى معه الناس.
فالمقصود: أن هلال بن أمية انهار من كثرة البكاء، قال: فاعتزلنا النساء، ومضت خمسون ليلة.
خمسون كلها مرارة، لم يذوقوا المنام إلا قليلاً ولا الطعام والشراب إلا قليلاً، حياة متعبة، تغير الجو والطبيعة والأشجار والأنهار وكل شيء.