للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صور من العفو في عصر السلف الصالح]

يقول ابن عباس رضي الله عنه: [[كان أهل القرآن خَاصَة عمر ومستشاريه صغاراً كانوا أو كباراً، وكان منهم الحر بن قيس؛ كان شاباً ويقربه عمر رضي الله عنه وأتى ابن عم للحر بن قيس؛ وهو شيخ قبيلتهم، فقال للحر بن قيس: إنك قريب عند هذا الأمير -يقصد عمر - فاستأذن لي عنده غداً لأكلمه، فأتى الحر بن قيس فاستأذن على عمر رضي الله عنه، فأذن عمر لذاك الرجل، فلما دخل قال: مهلاً يا عمر! والله ما تحكم فينا بالعدل ولا تعطينا الجزل، فغضب عمر وحمل درته وأراد أن يبطش بهذا الرجل الذي أساء الأدب معه رضي الله عنه، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن هذا من الجاهلين والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:١٣٤].

فقال عمر: قد كظمت وعفوت وأحسنت، قال ابن عباس: رضي الله عن عمر، كان وقافاً عند كتاب الله عز وجل]].

وسطر السلف الصالح من مواقف العفو والصفح أعظم الصور الرائعة التي حفظها الدهر، ولذلك يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه خرج رضي عنه وهو خليفة للمسلمين في وسط الليل، يريد أن يصلي في مسجد بني أمية الجامع في دمشق، وكان يخرج وحده في الليل يتفقد أمور الناس، وربما صلى في المسجد، وربما زار المقبرة، وكان هو الخليفة الوحيد في تلك الفترة خليفة المسلمين رضي الله عنه من المغرب إلى نهر السند شرقاً، [[فلما خرج ودخل المسجد في الظلام وطأ برجله أحد النوام، فقال: من هذا الحمار الذي وطأني؟ فقال عمر بن عبد العزيز: أنا عمر بن عبد العزيز ولست بحمار، ثم صلى رضي الله عنه، وانصرف]].

فيقول العلماء: "إنها من حسناته الفريدة التي يرى أنها قليلة لا يلتفت إليها بل هي من أعظم الحسنات؛ لأن أهل السلطان يغضبون على أي شيء، وأما هذا فرضي الله عنه، ما غضب" ولذلك يقولون: إنه من سلالة عمر رضي عنه وهم دائماً من أشد الناس في الحق، لكنهم من أعظم الناس عفواً عما يصلهم، أو ما يخص ذوات أنفسهم رضي الله عنهم.

[[وكان سالم بن عبد الله رضي الله عنه يطوف، فزاحمه رجل من أهل العراق، فكأن سالماً زاحم الرجل فالتفت إليه العراقي، فقال: والله إني لأظنك شيخ سوء، فقال سالم: ما عرفني إلا أنت، ثم انصرف من الطواف رضي الله عنه وأرضاه]].

وسالم هذا من الذين يتقرب بحبهم إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لزهده وجلالته، ولكن العفو والصفح يأتي إما بجبلة، أو تعلم، وهو موهبة من الله عز وجل، أو اكتساب يكتسبها الإنسان بالدربة، وبالعلم، وبالرياضة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ أشج بن عبد القيس: {لديك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناة، فقال أجَبلني الله بهما أم تخلقت عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما، قال: الحمد الله الذي وفقني لخلق، أو جبلني على خلق يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم}.

ومن أحلم الناس وأعظمهم حلماً: قيس بن عاصم المنقري وقد تعرضنا له بشيء من الإيجاز، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ قيس بن عاصم المنقري: {أنت سيد أهل الوبر}.

هذا سيد بني تميم وشيخهم، كان من أحلم الناس بل ضرب في الحلم والصفح أروع الأمثلة، حتى أنه ما كان يغضب أبداً.

قيل للأحنف بن قيس: [[ممن تعلمت الحلم؟ قال: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم المنقري، قالوا: بماذا؟ قال: كنا جلوساً عنده ذات يوم وكان محتبياً بثوب وهو جالس القرفصاء، فأتى ولد له فقال: يا أبتاه! قتل أخي، قتل أخي قال: من قتله؟ قال ابن فلانة -امرأة ربعية سكنت عندهم وحلت ورضعت معهم وكان معها ولد فقتل ولدها ولد قيس بن عاصم أي: أسقط عليه حجراً فقتله- قال الأحنف بن قيس: فوالله ما حل قيس بن عاصم حبوته، ولا تحرك، ولا تغير وجهه، ولا قطع حديثه، قال: فلما انتهى من الحديث قال: جهزوه، وغسلوه، وأتوني به أصلي عليه وأودعه، وخذوا مائة ناقة -لأنه كان غنياً ثرياً- وخذوا مائة ناقة واعطوها ذاك الولد لئلا يخاف ذاك الولد القاتل، وسلّوا أمه وعزوا أمه؛ لئلا تظن أنا نريد بها شراً، وعفىا الله عما سلف، قال الأحنف بن قيس: فمن ذلك تعلمت الحلم]].

وكذلك كأن الأحنف بن قيس هو سيد، بعد قيس بن عاصم وقيس بن عاصم هو الذي سارت بذكره الركبان يقول: عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد وأخذ وصاياه العلماء بل حتى المحدثون جعلوه في كتبهم ولذلك يقول الأول:

عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما

تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما

وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيانُ قوم تهدما

تولى الأحنف بن قيس بعده ولاية بني تميم، فجلسوا في مجلس يسمرون، فقال رجل منهم: [[هل رأيتهم الأحنف غضب في يوم من الأيام؟ قالوا: والله ما رأيناه قد غضب في يوم من الأيام، فقال: فما لي إن أغضبته؟ فأعطوه شيئاً من المال، فدعا رجلاً سفيهاً من سفهاء بني تميم، وقال: خذ هذه الجائزة -ما أدري كم من الدنانير والدراهم وهي في عيون الأخبار والعقد، وغيرها من كتب الأدب والتاريخ- قال: خذ هذه الجائزة واذهب إلى الأحنف بن قيس ولا تكلمه، وإنما الطمه على وجهه، فإذا قال لك: مالك؟ فقل: إني سمعت أنك تتعرض لي وتسبني وتغتابني، فذهب وإذا الأحنف بن قيس جالس في مجلس بني تميم فتعرض له ذاك السفيه فضربه على وجهه، فقال له الأحنف: مالك؟ قال: سمعت أنك تعرضت لي وسببتني وشتمتني، قال: من أخبرك؟ قال: أخبرني فلان بن فلان، قال: ماذا قال؟ قال اذهب إلى سيد بني تميم فلان فاضربه، فقال الأحنف: أنا ليس بسيد بني تميم، إن سيد بني تميم جارية بن قدامة -سيد آخر لكنه يغضب من الريح إذا مرت- فذهب إليه وهو في مجلس آخر، فانطلق هذا السفيه، ثم أتى جارية بن قدامة فضربه على وجهه، فقام جارية بن قدامة ومعه سيفه فضرب يد الرجل فأنزلها في الأرض]].

وهذه مشهورة عن جارية بن قدامة؛ لأنه من أحد الناس، ومن أغضب الناس.

هذا نموذج للحلم أو الصفح الذي تمثل به أهل الجاهلية في جاهليتهم وزاده الإسلام قوة ومتانة، ولذلك أحلم الناس وأعظمهم عفواً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩].

{دخل أبو سفيان بن حرب بعد تلك الأفاعيل والأيام السوداء، بعد أن أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاتله وباع أملاكه، في مكة دخل يوم الحديبية مستسلماً، فلما دخل أخذ عمر يطارده في الخيام، وكانت المعسكرات في الحديبية، والرسول صلى الله عليه وسلم قد وزع الجيش أربعة أقسام، فأخذ أبو سفيان يكر على بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم مع العباس وعمر وراءه بالسيف ويقول: هذا أبو سفيان لا نجوت إن نجا، حتى دخل أبو سفيان في خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكلم أبو سفيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! فعلتُ وفعلتُ فاعف عني.

قال: فقد عفوت, وحلمت، وقد صفحت، فدمعت عينا أبي سفيان وقال: لا إله إلا الله ما أرحمك، ولا إله إلا الله ما أبرك، ولا إله إلا الله ما أوصلك}.

ولذلك لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة -كما ثبت في أحاديث صحيحة- وقد كان أبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ما ترك قصيدة عصماء يهجو بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نثرها في العرب، حتى أن الناس من المشركين أخذوا يهجون الرسول صلى الله عليه وسلم بشعر أبي سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كفى هذا، بل نازل وصرف ماله في حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ونصره الله ورفع الله رايته، وأعزه وهزم الأحزاب وحده {أتى أبو سفيان بن الحارث فجمع أربعة أطفال له ما بلغوا سن التمييز وخرج بهم يريد الصحراء فلقيه علي بن أبي طالب، وهو من بني عمومته، فقال: يا أبا سفيان إلى أين تذهب؟ قال: أذهب بأبنائي إلى الصحراء فأموت جوعاً وعطشاً، والله لئن أدركني محمد ليقطعني إرباً إرباً، فقال علي: أخطأت يا أبا سفيان! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحلم الناس، ومن أبر الناس، ومن أوصلهم، فعد إليه، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:٩١] فعاد أبو سفيان بأطفاله، ووقف على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم على رأسه ما يقارب اثني عشر ألفاً من الأنصار ومن قبائل العرب والمسلمين مسلحين، فقال: يا رسول الله! السلام عليك، تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم عينيه ودمع صلى الله عليه وسلم وقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فنسي كل ما مر به عليه الصلاة والسلام}.

وفي ذاك اليوم وقف صلى الله عليه وسلم، وأخذ بباب الكعبة وتكلم للناس ثم قال لقريش وقد أخذ السلاح من أيديهم: {ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء}.

أي: مسامحين معفو عنكم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا عفوه صلى الله عليه وسلم وسماحته، وهذه قضايا الحديث.

وبقيت قضايا لفظية في هذا الحديث منها: قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم}.

ورد في لفظ: {لا يؤمن أحد} بدون الإضافة، وورد: {لا يؤمن عبد} وورد: {لا يؤمن مسلم}.

وأشملها: {لا يؤمن أحد} وهو أعمها في اللفظ، وأكثرها فائدة، ومعنى: {لا يؤمن} أي: الإيمان الكامل، أما أصل الإيمان فقد يحصل بدون أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه لكنه إيمان ضعيف، وإيمان ليس في تلك القوة التي يريدها الرسول صلى الله عليه وسلم.

{حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} قال كثير من العلماء منهم النووي والقرطبي: "أن يحب لنفسه من خير الدنيا والآخرة".

ولذلك يورد ابن القيم في الوابل الصيب مسألة في الإيثار بالقربات: هل لنا أن نؤثر بالقربات؟ يعني: لك إذا رأيت مسلماً في الصف الثاني أن تترك الصف الثاني أنت وتتأخر وتقدمه مكانك، أو أتيت يوم الجمعة متقدماً وجلست في مكان، ثم أتى رجل متأخر من المسلمين، هل لك أن تجلسه مكانك وتعود؟

والذي يميل إليه ابن القيم وبعض العلماء: أن هذا وارد وأنه جائز ومشروع، وأن الله يثيبك على الإيثار في القربات.

ورأى بعض العلماء: أن هذا لا ينبغي وأن الإيثار يكون في أمور الدنيا في الأكل، والشرب، واللباس، وفي مجالس الدنيا، أما في القربات التي يقصد بها التقرب إلى الله فلا يُؤثر بها.

هذه المسألة: الراجح فيها ما ذهب إليه ابن القيم، وهو جيد في بابه فإن الله سبحانه يثيب ويعطي على مقدار ما جعلت أنت وما تنازلت عنه من الأحقية ومن الثواب الذي آثرت به غيرك؛ لأنه لا يوجد في النصوص ما يعارض ذلك أبداً، بل قد آثر كثير من الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم، فـ عمر رضي الله عنه يقولون: [[أنه آثر أبا بكر في الصلاة في بعض المواقف، وتأخر قبل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثره بالخلافة]] وآثر بعضهم بعضاً بالقيادة، والإمامة، وآثار بعضهم بعضاً بالمجالس، وصدور المجالس، والصفوف الأول، هذا هو الوارد، وكأنه الصحيح والله أعلم، والمسألة سهلة لا تقتضي هذا الخلاف.

أما قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} فمعناه: أن من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فليس بمؤمن كامل الإيمان، وفي نفسه ضغينة، ولذلك يطلب من الإنسان أن يطهر نفسه من الحسد والحقد والغل، ومن لم يفعل فإنه سوف يبقى ناقص الإيمان حتى يلقى الله عز وجل.

والقضايا اللفظية سوف نتعرض لها بعد هذا الحديث إن شاء الله، إن كان هناك وقت، لكن نريد أن نربط بين الحديث الأول والحديث الثاني والثالث لأنها بمعنى واحد.

يقول الإمام البخاري باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده} وفي حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} عليه الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>