[أفضل الأعمال]
قال ابن تيمية: وأما ما سألت عنه، من أفضل الأعمال -وبدأ يجيب عن الفقرة الثانية، بعد صفحات - قال: "وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس، وصدق رحمه الله، فإن بعض الناس يناسبهم الذكر، وبعضهم الصيام، وبعضهم الجهاد، وبعضهم الإنفاق في سبيل الله، وبعضهم التعليم، وبعضهم نفع الناس، إلى غير ذلك من الأعمال، ولذلك لابد أن تعرف مستويات الناس، وترشد كل إنسان لما يصلح نفسه، كما فعل عليه الصلاة والسلام.
عندما جاءه عبد الله بن بسر -كما في سنن الترمذي بسند صحيح- عبد الله شيحٌ كبير عمره فوق السبعين، فقال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فدلني على شيءٍ أتشبث به -وقد جاء بعصاه متوكئاً عليها، منحني الظهر، أبيض اللحية والرأس، فماذا تتوقع أن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام؟ يقول: عليك بقيام الليل، وهل هذا يقوم الليل، أو عليك بالجهاد في أفغانستان لا- قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} هذا هو جوابه، فإذا رأيت الشيوخ الكبار، والعاجزين والمرضى فقل لهم: عليكم بذكر الله.
{جاءه غيلان الثقفي -وكان قوي البنية- وكان عنده تسع نسوة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعاً، وأن يطلق سائرهن، فقال: دلني على عمل؟ قال: عليك بالجهاد في سبيل الله} لأن هذا فارس، يذبح القوم وهو بطل، يستحق هذا المستوى، وجاءه عليه الصلاة والسلام أبو أمامة فلما رآه قال: {عليك بالصيام} وجاؤه أبو ذر، قال: {أوصني قال: لا تغضب}.
لأن أبا ذر يغضب، رضي الله عنه وأرضاه وكانت فيه حده.
وجاءه رجلٌ من أهل اليمن فقال له صلى الله عليه وسلم: {أعندك من والديك أحد قال: أمي في اليمن، قال: ماذا تريد؟ قال: أريد الجهاد في سبيل الله.
قال: ففيها فجاهد} وأصل الرواية في الصحيحين بلفظ:: {ففيهما فجاهد} وعند النسائي: {أمسك رجلها فإن الجنة عند رجلها} أيترك والدته تموت جوعاً وعرياً في البيت ويذهب يقاتل!! هذا ليس بصحيح، ولذلك لابد للمسئول إذا سئل أن يسأل عن حال السائل.
والآن إذا أتيت إلى تاجر، عنده ملايين في البنوك، أتخاطبه بقيام الليل، قيام الليل من أسهل الأمور عند التجار، وهم يريدون أن يسمعوا دائماً الحديث في قيام الليل، لكن لا يريد كثير منهم أن يسمع ذكر الربا، والصدقة، وسيرة عثمان، وابن عوف، وكيف أنفقوا، وكيف أعطوا، ولا تأتي في سيرة النوافل الأخرى إلا عرضة.
وإذا جلست مع طالب علم فقير فلا تكلمه عن الإنفاق؛ لأنه ليس عنده إلا ثوبه الذي عليه، فمن أين ينفق؟! لكن كلمه في بذل العلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:١٥٩] أعطه من هذه الأمور، وإذا أتيت إلى السلطان وجلست معه في المجلس، فلا تتكلم عن البيع والشراء!! وتكلم عن العدل، وسيرة داود عليه السلام، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وسليمان عليه السلام وعمر بن الخطاب:
البس لكل حالةٍ لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
هذا هو المطلوب.
قال: "يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه، وما يناسب أوقاتهم" لأن الذي يناسبني قد لا يناسبك، فأنت موظف وأنا طالب، أو أنت تاجر، وأنا مزارع، فيختلف باختلاف الناس، "فلا يمكن فيه جوابٌ جامعٌ مفصلٌ لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره، أن ملازمة ذكر الله عز وجل دائماً هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة" يقول: شبه إجماع بين أهل العلم أن أفضل نافلة بعد الفرائض ذكر الله عز وجل، وهذا قدر مشترك يشترك فيه الناس جميعاً، من تاجر ومسئول وموظف ومزارع وطالب وأستاذ، فكلهم يشتركون في هذه المسألة.
ولا أفضل من الذكر، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، من حديث أبي الدرداء، أنه قال: {ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله}.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند مسلم أنه قال: {سيروا هذا جَمَدَانْ} وهو الجبل الذي مر عليه عليه الصلاة والسلام، وكان أمامه، فلما رأى جمدان هذا الجبل العظيم، قال للصحابة: {سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
هذا أسبق من يسبق، وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند البخاري من حديث أبي موسى، أنه قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، كمثل الحي والميت} الذي لا يذكر الله ميت، تراه في المجالس ثلاث ساعات أو أربع لا تتحرك شفته يذكر الله لأنه ميت! والذي يذكر الله حي، وقال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم: {لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس} وفي لفظٍ: {أو غربت}.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه -وهذا الحديث عند الترمذي بسندٍ صحيح، وصححه الأئمة- قال: {من قال: سبحان الله العظيم وبحمده؛ غرست له نخلةٌ في الجنة}.
وللفائدة -يا أيها الإخوة- أذكركم ببعض الأحاديث أقدمها هدية لكم، وهي صحيحة، كلها على شرط الصحة، لا أذكر حديثاً إلا صحيحاً، وإن ذكرتُ حديثاً في سنده شيء بينته إن شاء الله.
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {سورة تبارك المانعة من عذاب القبر} وعند أحمد بسندٍ صحيح، {ثلاثون آية -هي سورة تبارك- شفعت لرجلٍ حتى دخل الجنة} وهي تنجي من عذاب القبر، فأوصيكم بقراءة سورة تبارك مرة في اليوم والليلة.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام، عند الحاكم والدارقطني أنه قال: {من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له نورٌ إلى الجمعة الثانية} وفي روايةٍ عند الحاكم صحيحة أنه قال: {أضيء له نورٌ إلى البيت العتيق} وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند ابن حبان والطبراني والنسائي في السنن الكبرى أنه قال: {من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، عشر مرات، بني له بيتٌ في الجنة} فهذه من الأحاديث التي أقدمها لكم في هذه الليلة، وسوف تكون مجالاً للحديث إن شاء الله في الدروس المقبلة.
والشاهد أن ابن تيمية يرى أن الذكر -وهو شبه إجماع- أفضل الأعمال، وأنا أوصيكم بالذكر، وأن تسبح الله وتحمده، وأنت في المجلس وفي السيارة والطائرة، والمكتب، علَّ الله أن يرفع درجتك في الجنة.
وهناك حديث في سنده ضعف، عند الترمذي: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرج به مر بإبراهيم، قال إبراهيم عليه السلام: يا محمد! أقرء أمتك مني السلام -عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام، وعلى سائر الأنبياء والرسل- وأخبرهم أن الجنة قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر}.
والمطلوب من المسلم أن يحيي بيته بهذه الأذكار، وأن يدخل القرآن والدعوة ويدخل الإيمان بيته، وأن يخرج كل ما يعرضه لغضب الله، وعذاب الله، ليكون بيته من بيوت أهل الإيمان، وأهل الاستقامة.