للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وفاة عمر بن عبد العزيز]

الحمد لله ولي الصالحين، رب العالمين، عضد المهضومين، التائب على التائبين، محب المنيبين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، صلى الله على من ربى هؤلاء الأخيار الأبرار وأخرجهم هداة للناس، فهم ورقات من دوحته، وقطرات من بحره:

المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء

أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

ولكل حي وفاة، ولكل بقاء نهاية إلا الله؛ فإنه الباقي سُبحَانَهُ وَتَعَالى بقاءً أبدياً سرمدياً قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨] وقال عز من قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].

وتنتهي حياة الأخيار بنهاية حميدة بروضة من رياض الجنة، وتنتهي حياة الفجار بحفرة من حفر النار، فكأن الأخيار ما بئسوا مع من بئس، وما كأنهم سهروا في طاعة الله ولا تعبوا، ولا كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم صبغوا في الجنة صبغة، فزال كل ألم، وما كأن الفجار تنعموا مع من تنعم، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب؛ لأنهم صبغوا في النار صبغة، فزال كل نعيم.

تأتي الوفاة لهذا الإمام والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وكان أعظم ما قاده إلى طاعة الله ذكر الموت، والموت مصيبة كما سماه الله في كتابه حين قال: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:١٠٦] وكان الحسن البصري يقول: [[والله ما في الدنيا مصيبة أعظم من الموت]] وكان يقول: [[فضح الموت الدنيا، فلم يدع فيها لذي لب فرحاً]].

فلما حضرت سكرات الموت عمر دخل عليه الأطباء، فقال: هيهات هيهات! لقد تعالج قوم هود وعاد فماتوا بأطبائهم، فجلس حوله الأطباء، وقال: ما هو مرضي؟ قالوا: نرى أنك أصبت بسم -وضع له سم في طعامه- فقال: ما هو علاجي؟ فوصفوا له العلاج، قال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمنى إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الحياة وقد مللتها، ثم استدعى خادمه وقال: أسألك بالله، أسألك بمن شق البحر لموسى، أسألك بمن يجمع الناس ليوم لا ريب فيه، أأنت وضعت السم لي في الطعام؟ قال الخادم: إي والله، قال: فكم أعطوك من المال؟ قال: أعطوني ألف دينار، قال: اذهب على وجهك أنت عتيق لوجه الله والله لا أمسك بسوء، فذهب الخادم ومرض عمر رضي الله عنه وأرضاه، ودخل عليه الناس يعودونه، فكلما عاده أحد، قال له عمر: اعف عني عفا الله عنك، ثم أدخل عليه الأطفال في آخر يوم من رمضان وهو مريض، فقبَّلهم ومسح على رءوسهم وبكى، وفي عيد الفطر يوم يخرج الناس في ثيابهم الجميلة، يوم يخرجون يتعايدون ويتزاورون، يوم تمد المواكب والسرادقات جلس في بيته، وأرسل إلى رجاء بن حيوة أحد العلماء الصالحين، قال: صلِّ بالناس فإني مرتهن اليوم وإني محبوس إن لم يطلقني الله، وخرج رجاء بن حيوة وخرج الناس، لكن ليس معهم الخليفة أمير المؤمنين، بقي في بيته مع ملائكة الرحمن: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:٣٠] فلما كان الضحى من يوم العيد قال لامرأته: اخرجي من بيتي؛ فإني أرى قوماً ليسوا بإنس ولا جن، أظنهم ملائكة، فخرجت وفاضت روحه إلى الحي القيوم، وكان يقول قبل وفاته لأهله: إذا غسلتموني وكفنتموني ووضعتموني في القبر فاكشفوا عن وجهي فإن ابيضَّ فاهنئوا وامرءوا، وإن اسودَّ فويل لي وويل لأمي، قالوا: ولم؟ قال: والله ما دفنت خليفة إلا كشفت عن وجهه فوجدت وجوههم مسودة.

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:١٠٦ - ١٠٧].

وصرع ذاك المصرع الذي لا بد لكل حي أن يصرعه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:٩٤] {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠].

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ

تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ

لقد مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ

وما مات حتى مات كل موحدٍ من الهمِّ واستولت عليه القنا السمر

عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر

<<  <  ج:
ص:  >  >>