للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بلال بن رباح وعاقبة الصبر]

وبلال بن رباح: أهين من الوثنيين إهانة لا يعلمها إلا الله عز وجل، والله عز وجل يعلم أن بلالاً يقول: لا إله إلا الله، ويصلي، ويريد الله والدار الآخرة، ويراه يسحب في جبال مكة، ويوضع عليه الصخر، وبلال يقول: أحد أحد، وفي قدرة الله عز وجل أن يخسف بهؤلاء الكفرة، وأن يطلق بلالاً ويفك أسره، لكن هكذا يريد الله ليجعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى مدرسة من مدارس الابتلاء.

وبعدها يأتي بلال بن رباح فينتصر إيمانه على الكفر، ويثبت يقينه على الطاغوت، ويهتدي بهدى الله عز وجل، فيصبح سيداً من السادات، فـ بلال بن رباح معروف الآن، وأما خصومه فليسوا معروفين، بلال يعرفه مسلمو الملايو والسودان والعراق، وكل صقع يذكر فيه لا إله إلا الله يعرفه المسلمون، لأنه مؤذن الإسلام:

فاستفاقت على أذان جديد ملء آذانها أذان بلال

وفي الصحيح لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أمر بلالاً أن يؤذن، فارتقى بلال على الكعبة المشرفة التي بنيت على التوحيد ليؤذن، وليغيظ به صلى الله عليه وسلم المشركين رؤساء الضلالة والطاغوت، يقول: انظروا إلى هذا العبد الذي لا يساوي في نظركم فلساً واحداً، أصبح سيداً بلا إله إلا الله، وانظروا إلى هذا المؤمن التقي المتوضئ اليوم يرتقي على الكعبة فيؤذن بلسان التوحيد لتسمعه آذان البشرية.

وانظروا إلى من سحبتموه على الصخور، وأهنتموه وضربتموه وشتمتموه، يؤذن يوم الفتح أذاناً، فتستمع الدنيا، وينصت الدهر لأذان بلال:

وقل لبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا

توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا

فرضي الله عن بلال كيف ابتلي فصبر، فرفع الله ذكره أبد الآباد، هذا هو النصر، ولذلك يقول عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، أصبح بلال سيداً من سادات هذا الدين، وأصبح واجهة وقدوة يتشرف المسلم أن ينتسب إلى مثل أمة منهم بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: يا أيها الإخوة الفضلاء! ويا أيها الأخيار النبلاء! من أعظم الدروس التي نستفيدها: أن الأجر والمثوبة مع المشقة، ولذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود {قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فقلت: يا رسول الله -بأبي أنت وأمي- إنك توعك وعكاً شديداً! قال: نعم، قلت: ذلك بأن لك أجر رجلين، قال: نعم، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم} ثم قال عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث لـ ابن مسعود {ما من مسلم يصيبه هم أو غم أو حزن أو كرب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من خطاياه} وفي لفظ {إلا حط الله من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها}

فانظر إلى الابتلاء معه الأجر والمثوبة، فاحتسب ما يصيبك في ذات الله عز وجل، من همٍّ أو غمٍّ، أو حزنٍ، أو حتى حر الشمس، فإن الشوكة إذا أصيب بها العبد فاحتسبها عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كتب له أجر ذلك.

ومنها: الرفعة، فإذا ابتليت فاعلم أن الله أراد رفعتك، وما أراد خفضك، فإنه إذا علم أنك تريده والدار الآخرة رفعك بالابتلاء.

ومنها: أنه علمك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى درساً من دروس العبودية لا ينسى؛ لأنك تذل بالابتلاء، وتتواضع لنفسك، وتتهذب أخلاقك، لأن بعض الناس جاهل ما تربى، فإذا أصيب بمرض أو أصيب بمصيبة ذل، وأسلس القيادة لله الواحد الأحد.

ومنها: أنك تتربى كذلك على الصبر، وهي المدرسة الكبرى التي أراد صلى الله عليه وسلم أن تتقرر للناس، ولذلك يقول الإمام أحمد: تدبرت الصبر في القرآن فرأيته في أكثر من تسعين موضعاً، وقال أهل العلم: من ركب الصبر أوصله إلى الرضا، وقال عمر: أدركنا خير عيشنا بالصبر، وقال بعض الصالحين: لما صبرنا نجحنا وأفلحنا.

من لا يصبر فلا حظ له، ولا حكمة ولا نهاية معه، ولا غاية منشودة يطلبها.

فعلينا يا عباد الله! أن نصبر في كل ما أصابنا، وأن نحتسب أجرنا على الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم، من حديث صهيب رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً: {عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته نعماء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن}.

فاصبر على كل ما يصيبك في عرضك، فإن الأخيار وشباب الدعوة والصحوة الإسلامية الآن، أكثر ما يصابون في أعراضهم، متزمتون، متطرفون، رجعيون، مطاوعة، من هذه الألقاب والشائعات التي تلصق بهم، فعليهم أن يحتسبوا، وليعلموا أن رسولهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم أصيب بأشد من هذا، فقالوا عنه ساحر، وكاهن، وشاعر، ولكن صبر واحتسب، فأعلاه الله وخفض خصومه.

واصبر على كل ما يصيبك في مجال الدعوة، فإنك تجد الجفاء والإعراض، وتجد تكبر المتكبرين وشتم الشاتمين، وسب السابين، فعليك أن تحسن خلقك، وأن تصبر، فإن النصر سوف يكون معك إن شاء الله.

واصبر على كل ما يفوتك من الأحباب والأقارب، وكل ما يصيبك في جسمك من تعطيل بعض الحواس وتحتسب ذلك على الله، فنسأل الله لنا ولكم العافية، فإنا لا ندعو بالبلاء.

ولما قرأ أبو علي الفضيل بن عياض قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١] قال: اللهم لا تبلونا فتفضحنا، يعني اتركنا مستورين، فإن بعض الناس يدعو بالابتلاء فإذا حصل لا يصبر، كما فعل بنو إسرائيل، كانوا يتمنون القتال فلما حضرت المعركة فشلوا، فنحن نسأل الله العفو والعافية، وفي حديث العباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في المسند: {ألا أحبوك يا عم} وفي رواية: {يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به، قال قل: اللهم إني أسألك العفو والعافية} وفي صحيح مسلم {أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى رجل من الأنصار، فوجده مريضاً قد ضمر جسمه، قال: مالك؟ قال: قلت: اللهم ما كنت معذبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فابتلاني الله، قال عليه الصلاة والسلام: ألا قلت أحسن من ذلك؟ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:٢٠١]}.

فندعو دائماً بالعافية.

وعند الترمذي: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك الصبر، قال: مالك دعوت بالبلاء، ولكن اسأل الله العافية} فنحن نسأل الله العافية وأن نكون مستورين، لأنا لا ندري علَّنا أن نبتلى فنفتضح، فنسأله أن يعافينا وإياكم من أي سوء، وأن يجعل أحسن الأقدار علينا ألطفه، وأن يرزقنا من الخير أعمه، ومن البر أتمه، ومن العيش أرغده، ومن الوقت أسعده، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>