[الحيوية المتوهجة في كلماته وكتاباته]
تاسعاً: الحيوية المتوهجة مع أنفاسه وكتاباته وكلماته:
لم يكتب ببرود، بعض الناس إذا قرأت له تنعس ويأتيك النوم؛ لأنه كتبه من قلب نعسان، كتبه وهو ينعس، فتقرأ كتاباته ميتة، تميتك وأنت جالس، ويتكلم لك ببرود كأنه لا يعنيه، مثل بعض الناس الذي يتكلم عن الإسلام وهو لا يحمل الإسلام في قلبه، تجده يأتي بعموميات، ولذلك لا يجعل الله لكتاباته قبولاً، يكتب عن إصلاحات الإسلام، وعن الخير فيه، وعن كراماته، ولكن كلماته ميتة، إن الكلمات إذا خرجت من قلب ميت ماتت قبل أن تصل آذان الناس، وإن الكلمات الحية تخرج حية مدوية من القلوب وتحيا في قلوب الناس؛ وهذه ككلمات ابن تيمية تماماً تحيا، لماذا؟ لأنه يرسلها من قلبه، ويدفعها من روحه، كان الإسلام قضيته هو، وأكبر قضية عنده نصر الإسلام، حتى سجن مرات عديدة، وفي السجن كتب لأمه رسالة، وأمه كانت في حران، وهو في دمشق، وكتبه كانت مع أمه في دمشق، وسجن في الإسكندرية مرة ثانية:
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
كتب لأمه، قال: "بسم الله الرحمن الرحيم -بعد سلام طويل وكلام- فوالله ما تركنا المجيء إليكم وزيارتكم إلا لأمور كبار، يتعين علينا الوقوف معها، ولو أن الطيور تحملنا لسرنا إليكم"
وأنا كنت أعلق بشيء من الدعابة، أقول: لو قال شيخ الإسلام لطرنا إليكم أحسن من سرنا إليكم.
يقول: ليت الطيور تحملنا إليكم، لكن يستأذن أمه، يقول: سامحيني على بقائي هنا، لأن عندي أموراً كباراً، كالجهاد، وأمور الأمة الإسلامية، وبث الوعي العام، واستنقاذ الهمم، وتحرير العقول، فيقول: يا أماه! أنا قصرت في الزيارة فالسماح السماح.
ثم يصف لها ماذا يجد في السجن من سعادة والتجاء إلى الله، قرأ في سجنه في سنة واحدة ثلاثاً وثمانين ختمة للقرآن، ويقول: "إن في الدنيا جنة من لا يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"
وأدخلوه السجن، فأتى السجَّان -جزاه الله أفضل ما جزى سجَّاناً عن ابن تيمية - ففتح له الدروازة، ولما دخل ابن تيمية ضرب بالباب وراءه وتلاميذه وراء الباب، فابتسم ابن تيمية، كما يبتسم الأسد؛ والأسد لا يبتسم:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فتبسم ابن تيمية ونظر إلى السجان وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣] ثم تبسم مرة ثانية، وأطلقت كلمات من روحه، فقال: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة" ماذا يفعلون، عندي ممتلكات فليأخذوها، عندي غرفة بجامع دمشق فيها ثوبان له؛ ثوب للصلوات العادية، وثوب لصلاة الجمعة، وكان يتغدى بخبزة واحدة مع خيارتين، ويأكل اللحم في الأسبوع مرة، ولا عنده زوجة، بلغ ٦٣ سنة وما تزوج؛ ربما لسبب عنده، أو لأنه مشغول، لكن السنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:٣٨] وربما كان لـ ابن تيمية عذره فالله أعلم، فيقول:
على الدنيا العفاء فما لشيخٍ كبير الجسم في الدنيا قرار
ويقول:
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
هذا ابن تيمية، في مسألة الحيوية.
وأنا أطلب من إخوتي وزملائي وأحبابي أن يكونوا مكتبة لـ ابن تيمية، وأن يقرءوا له كثيراً كثيراً.
أحد الفلاسفة قدم من بلد من البلاد، وكان عدواً لـ ابن تيمية، فأخذ يقرأ لـ ابن تيمية -وهذا كان فيلسوفاً ومعه دكتوراة في المنطق- فلما قرأ لـ ابن تيمية ما يقارب أسبوعاً، قال: " ابن تيمية شيء ثانٍ " أي أنه: مذهل ليس بعادي، وبعدها أصبح من أنصار ابن تيمية، وألف عن ابن تيمية رسالة.
فأنا أطالبكم بالعودة إلى كتب ابن تيمية، والتكثير من القراءة له حتى تكونوا عقلية جبارة تفهم الإسلام، كما فهمه شيخ الإسلام وليس هو بمعصوم.