للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حال الناس مع طول الأمل]

اجتمع قوم من الصالحين كما قال ابن عبد البر: فتذاكروا قصر الأمل، قال أولهم: أما أنا فبلغ بي قصر الأمل أني ما أصبحت إلا وقلت لا أمسي، قالوا: أملك طويل، وقال الثاني: وأنا والله ما رفعت رجلي، إلا ظننت أني لا أضعها في الأرض حتى يبادرني الموت، قالوا: أملك طويل، قال الثالث: أما أنا فوالله ما أخرجت نفساً، إلا ظننت أني لا أخرج النفس الآخر.

صح عنه صلى الله عليه وسلم {أنه قضى حاجته، ثم أتى فتيمم، فقال الصحابة له: يا رسول الله! الماء قريب، قال: لعلي لا أبلغه} ربما أموت دون الماء، فالماء كان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أمتار، فلما قضى صلى الله عليه وسلم حاجته تيمم ليكون على طهارة، ومشى إلى الماء، فقال الصحابة: يا رسول الله! الماء قريب، قال: لعلي لا أبلغه.

ومر عليه الصلاة والسلام بـ ابن عمر، وهو يبني بيتاً من سعف النخل ويقويه، فقال: {ما هذا يا ابن عمر! قال: بيت لنا يكننا يا رسول الله! من المطر، ويظلنا من الشمس، قال: الأمر أعجل من ذلك} موتك قريب، وصح في حديث: {إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح} وهو عند البخاري من كلام ابن عمر، ولكن رفعه بعض أهل العلم من الصحابة إلى محمد عليه الصلاة والسلام.

الخليفة العباسي المتوكل أعطى الإمام أحمد أموالاً لا يعلمها إلا الله، ركَّب على البغال والخيول أموالاً من الذهب والفضة، والإمام أحمد يحتاج إلى كسرة الخبز، وليس عنده من الدنيا إلا القليل، قالوا: لماذا لا تأخذ أموال المتوكل؟ قال: طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام قلائل حتى نلقى الله، ولذلك مات الإمام أحمد، ومات المتوكل، فهل نفع هذا ماله، وهل ضر هذا فقره، لا.

ذهبوا إلى علام الغيوب.

وقال الحسن البصري: دخلت على بشر بن مروان وهو أمير، فرأيته بطيناً سميناً أبيض غضاً غشوماً ظلوماً، والحراس على رأسه بالسيوف، ووالله ما خرجت من قصره، إلا والأطباء يستدعون، فدخلت مع الأطباء، فإذا هو يبرم في الأرض كالحية، فمات، هذا بشر بن مروان أخو عبد الملك بن مروان، كان أميراً على العراق، وهو المقصود بقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

تولى الإمرة والجنود كانوا على رأسه بالسيوف، وفي لحظات أتته سكرات الموت: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٦ - ٧] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:٦٢].

انتفض وقال: عليّ بالأطباء فدخل الأطباء فما أدركوه إلا وقد مات.

الخليفة المعتصم فاتح عمورية، الذي دائماً نكرر قصيدة أبي تمام فيه، هذا المعتصم خليفة عسكري كان يأخذ السيخ الحديد يكتب اسمه في الهواء، يقولون: ربط رجله اليمنى بوتد في الأرض، وربط اليسرى بوتد، ثم قفز من الأرض على ظهر الفرس، فاقتطع الوتدين والخيوط.

كان من أقوى الناس، ويقولون: أنه أخذ ذراع أحد القواد، فأراد أن يلويه بإصبعين، قال: لا تكسر ذراعي، وصاح القائد، قال الذهبي، أو ابن كثير: " ما سمعنا بأقوى منه، لكن مات في الأربعين فما نفعته قوته ".

يقول: أتته سكرات الموت ما مرض قبلها، لكن أتته بغتة، مثل الجلطة، فنزل، فقال: علي بالقواد، فأسرعوا، قال: علي بالعلماء، فأسرعوا، قال: علي بالأمراء، فأسرعوا، قال: أموت الآن؟

قال العلماء: تموت بالإجماع أي: أفتوا أنه يموت، ثبت الهلال، قال: كيف أموت؟ قالوا: تموت، ذق الموت، قال: لو أعلم أني أموت الآن ما فعلت ولا فعلت، أي: لو علمت ما كنت فعلت بعض الأفعال.

{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:٦٢] غفر الله للمعتصم صاحب عمورية، دهده مدن الروم، أحرق هذه في قلب هذه، ونكس مئات الألوف من رءوسهم، وأشعل عليها النار، وأغلى عليها قدور اللحم، وأطعم القواد، وهو الذي يقول أبو تمام فيه:

السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب

رمى بك الله ركنيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصب

يقول: الله الذي رمى بك من السماء، الله الذي نصرك، وأما غير الله فلن يصيب مرمى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧].

قيل لنوح عليه السلام في طول الأمل وفي قصره، وقد عاش ألف سنة إلا خمسين عاماً: كيف رأيت الحياة؟ قال: والله لقد رأيت الحياة كبيت ذي بابين دخلت من هذا، وخرجت من هذا.

معاوية بن أبي سفيان عاش ثمانين، أو أكثر، قال: لبست كل شيء، فما وجدت كلباس التقوى، وذقت كل شيء فما وجدت كالصبر، وطعمت كل شيء فما وجدت كغلبة الرجال، أو كما قال، وما بقي من لذتي في الحياة إلا أن أجلس مع أخٍ يقربني من الله ليس معي ومعه أحد، يضع الكلفة عني، وأضع الكلفة عنه.

ومن طول الأمل، قال سبحانه للخائبين النادمين الفاجرين المعرضين عن منهجه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٣].

مر شيخ من قبيلة غفار قد بلغ السبعين سنة وأصبحت لحيته بيضاء -وهي طويلة على صدره- بأطفال يلعبون في سكة، فلما رأوه تضاحكوا، قال: مالكم؟ قال أحدهم: يا عم! بكم اشتريت هذه القوس يعني: اللحية، قال: يا بني! باعها الدهر مني بلا ثمن، وسوف يعطيك قوساً مثلها، يقول: انتظر قليلاً.

نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي

الإمام أحمد التفت فجأة، فرأى الشيب في لحيته، قال: " والله ما مثلت الشباب إلا بشيء كان في يدي، ثم سقط من يدي ".

بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

<<  <  ج:
ص:  >  >>