تفسير قوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً)
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٣٨].
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} [البقرة:٣٨] من الجنة, قيل: يهبط آدم وحواء ومعهما الحية والشيطان.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [البقرة:٣٨] الهدى: دين الله الذي يبعث به رسله، فكل الرسل أتوا بالهدى، وكل له شريعة وهم يتفقون أنهم أتوا بالإسلام.
والفرق بين الخوف والحزن.
الخوف: على أمر مستقبل، فتخاف من أمر يأتيك.
والحزن: على أمر قد فات.
{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٣٨] فهذا كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:١٢٣ - ١٢٤].
قال ابن عباس: [[كتب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على نفسه أن من اتبع هذا القرآن فأحل حلاله وحرم حرامه، ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة]]
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:١٢٤] معه دراهم ودنانير ودور وقصور، ولكن عليه الضنك واللعنة والغضب: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦].
يا إخوتي في الله! هذا درس للإنسان بأنه لا ينجيه إلا شرع الكتاب والسنة، ولا يمكن أن يكون ناجياً أو فائزاً أو مفلحاً إلا إذا جعل ورده الكتاب والسنة، وأنا أدعو إخوتي طلبة العلم والأخيار أن يكون لهم حزب كل يوم من الكتاب, وحزب من السنة, ولا يقدموا آراء البشر ولا مشاربهم أو أفكارهم، فإذا فعلوا ذلك وقدموه على الكتاب والسنة فهو أول الخزي والضلال.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [البقرة:٣٨] وقد أتى والله! والله لقد أسمعت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام راعي الغنم في الصحراء، وسمعت بدعوته العجائز في حجورهن وخدورهن، ونفذ إلى العاتق من النساء والعذراء من دعوته ما وصل علماء الصحابة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم, والله لقد سارت دعوته مسير الشمس والليل والنهار, فما هو عذرنا إذا قلنا: لم يأتنا ولم يبين وما وضحت الطريق؟! لقد وضحت كل الوضوح, وقد بُينت كل البيان: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:٧٠].
فمن هو الحي: أهو الذي يأكل ويشرب، ويشجع ويزمر ويغني، ويلعب البلوت ويضيع الليالي والأيام, وهو يسمى حياً مجازاً، حياة الثور والشاة، فهو يأكل ويشرب لأنه حي، ولكن قلبه ليس بحي.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢] لا سواء.
فالحياة هي حياة الإيمان وحياة القرآن، والذكر، والاتصال بالله، حفظ الوقت، وطلب العلم، حياة طلب مجالس الخير, واستماع كلام الخير هذه فهي الحياة، أما غيرها فهي حياة الخواجات، كيف ينعم الإنسان؟! كيف يهدأ باله وهو ليس مستقيماً وليس الله راضياً عنه؟ عنده قصور ودور، عنده سيارات ومناصب، لكن الله غضبان عليه من فوق سبع سماوات، كيف يهدأ؟! كيف يرتاح؟! ينتهي بعد أيام ويرتحل إلى الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:٩٤].
فأتى صلى الله عليه وسلم يخرج الناس من الظلمات إلى النور فمن أطاعه اهتدى ومن عصاه تردى.