[المسارعة بالاستغفار وطاعة الرسول بعد ظلم النفس]
وظلال هذه الكلمة يدور حول آيتين من كتاب الله عزَّ وجلَّ، يقول المولى تقدَّست أسماؤه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٤ - ٦٥] والمعنى مجملاً: لو أن هؤلاء البشر وهؤلاء الأتباع إذ ظلموا أنفسهم وتدنسوا بالخطأ وانحرفوا عن المنهج الرباني عادوا إلينا -أي: إلى الله- فاستغفروا لغفر الله لهم.
من الذي يغلق باب الملك المفتوح؟! ومن الذي يقطع الحبل الممنوح؟! ومن الذي يقف أمام الرزق الذي يغدو ويروح؟! لا أحد من البشر.
والكيانات الأرضية لا تستطيع أن تقول للمخطئين: إننا نراقب حركاتكم وسكناتكم فلتنتبهوا، والأنظمة الوضعية لا تراقب الأفكار ولا المعتقدات، ولا الأسرار ولا الضمائر، ولذلك يقول المولى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:١٢٠] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء:٦٤] فالعاصي إنما ظلم نفسه: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:٥٧].
فالله عزَّ وجلَّ لا تضره معصية العاصي، والله عزَّ وجلَّ لا يتضرر بانحراف المنحرف، ولو أن أهل الأرض جنهم وإنسهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، ثم هو سبحانه لا ينتفع بطاعة الطائعين، ولو امتلأت مساجد الدنيا بالمصلين والمسبحين والخاشعين والعابدين ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً؛ لكن العبد يظلم نفسه، والعبد ينسى الله وينحرف عن المنهج الرباني، فتجده في غروره وهواه وشيطانه ودنياه، فينحرف فترة من الفترات ثم يتذكر، قال تعالى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١] فكأن الذي وقع في الخطأ أعمى، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٣٥] وهنا مسألة التحدي، وهي عنصر من عناصر الألوهية التي لا يقبلها إلا الله، وهي: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:١٣٥] من هو الذي يستطيع أن يغفر لك ذنبك إلا الواحد الأحد.
وقفنا على الباب يا ذا الملك وصرنا ببابك والحمد لك
وهذه شجون العبد، أن يقف بباب الله عزَّ وجلَّ، فيتلفت الإنسان هل يغفر الله الذنوب وهي كثيرة؟! فيقول عليه الصلاة والسلام: {لَلَّهُ أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام تحت شجرة، فضلت منه، فالتمسها فلم يجدها فعاد فنام وأيس منها، فلما استيقظ وجدها عند رأسه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح} فالله أشد فرحاً من هذا، فرحاً يليق بجلاله، قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء:٦٤] هم دعَوك أنت، وهذا في حياته عليه الصلاة والسلام، والصحيح عند أهل العلم أنه لا يجوز الإتيان إلى قبره عليه الصلاة والسلام في طلب المغفرة، إلا بعض أهل التصوف فإنهم فهموا الآية خطأ، فيأتي أحدهم بعد أن يخطئ أو يشرب الخمر أو يسرق أو يزني فيقف عند الروضة، ويأخذ قضبان الحديد عند قبره صلى الله عليه وسلم ويقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
ولا يقيل العثرة إلا الله؛ لكن في حياته عليه الصلاة والسلام إذا جاء العبد واعترف عنده واستغفر له الرسول عليه الصلاة والسلام فإن الله يغفر له باستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له.
اسمع لبعض القصص الحية:
مر عبد الله بن سرجس على ناقته فقال: {يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: غفر الله لك يا رسول الله} والرسول صلى الله عليه وسلم مغفور له، وعبد الله بن سرجس يعلم أن الله قد غفر لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ لكن هو يريد أن يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كريم يرد على الكرم بالمثل وأزْيَد: {قال: ولك غفر الله، قال الصحابة: هنيئاً لك يا بن سرجس! استغفر لك الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: والله لقد استغفر لكم، وقد أمره الله بذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:١٩]}.
وفي صحيح مسلم: أن رجلاً صلى مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فأتى يطرح نفسه عند الرسول صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى هذا الأمة! يذنب مذنبها ويأتي ليعترف عند المعصوم عليه الصلاة والسلام ويريد أن يطهره بالحد، حتى إن ابن الوزير عالِم اليمن يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن عصاة الصحابة أفضل من طائعينا.
مَن مِن طائعي العصر الذي إذا أخطأ خطأًً يذهب إلى القاضي أو الإمام أو الشيخ ويقول: طهرني بالحد؟! من هو الذي لو شهد شهادة زور أو شرب خمراً أو سرق أو زنى أو خان أو غش ذهب يطلب التطهير؟! لا أحد؛ لكن أتى هذا الصحابي فقال: {يا رسول الله! أصبتُ حداً فأقمه عليَّ، قال: أصليتَ معنا؟ قال: نعم، قال: اذهب، فقد غفر الله لك} يقول الشراح: من الممكن أن يكون هذا ليس بحد، وظن الصحابي أن فيه حداً، وربما كان قبل أن تنزل الحدود، فقال: {اذهب، فقد غفر الله لك}.
قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:٦٤] وهذا في خطأ العبد.