[الزهد في الإمارة]
وأما في الإمارة فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتطلع في الصحابة، ومن غرائز الناس حب الشهرة، وحب الظهور، وحب الترأس، نسأل الله العافية والسلامة.
ذكر الذهبي في ترجمة عبد الله بن الزبير: أنه رحمه الله ورضي عنه كان يحب أن يتقدم ويتصدر، حتى أرسله أبو بكر رضي الله عنه بسارق ليؤدبه هو وشباب معه من المدينة، فذهبوا به إلى ضاحية، فقال: من أميركم في هذه الرحلة؟ يريد أن يقولوا: أنت، فقالوا: أنت فأخذ يأمر فيهم وينهى من المدينة حتى عاد إلى المدينة.
فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلمح في وجوه أصحابه هذه الغرائز، فكان يعالجها ويداويها عليه الصلاة والسلام، أتى له عبد الرحمن بن سمرة العبسي القرشي الشهير، كما في الصحيحين فقال صلى الله عليه وسلم وهو يوصيه: {يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة -احذر- فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إلى نفسك، وإن أعطيتها بلا سؤال أعنت عليها} فكان يقول صلى الله عليه وسلم: احذر الترأس، احذر التصدر وازهد، وبالفعل كان هذا الرجل لا يحرص على الإمارة، وأخذ بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فرزقه الله عز وجل الإنابة، وكان أميراً وهو الذي فتح سجستان، فاسألوا عن سجستان، واسألوا كابول، واسألوا عن الذين عفروا وجوههم هناك سجداً لله، وسكبوا دماءهم هناك لتشهد لهم عند الله، من هم إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
ومن رمى نار المجوس فأطفأت وأبان وجه الصبح أبيض نيراً
فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند الترمذي وغيره من أهل السنن قال: {قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ -ما هو الأمر الذي ينجيني من عذاب الله- فقال عليه الصلاة والسلام: كف عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك} وكانت من أعظم الوصايا له وأرضاها، فأوصاه بقلة الخلطة التي لا تنفع، وتضيع الوقت، يوم لا وقت عند المسلمين إلا في الهراء، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور، الوقت الذي أصبح أرخص سوق له هو السوق عند المسلمين، وأصبحوا يتعاملون بالوقت أرخص من الدراهم والدنانير، ونسوا قوله تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦].
فأين الوقت يا أمة الوقت؟ وأين الساعات الطويلة التي كل ساعة كفيلة بأن ينتج فيها العالم كتاباً، والداعية دعوة، والتاجر تجارة رابحة، والمعلم مهنة طيبة، أين هذه؟ إنها ساعات رخيصة، إن شيخ الإسلام ابن تيمية -كما تعلمون- ألف كتاب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، وجئنا لندرسه فأخذنا فيه سنة وما فهمناه التدمرية: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:٢٥].
هذا الوقت الصغير القصير لا يتحمل إلا قيلولة عند المترفين منا، ويضيع الوقت من صلاة العصر إلى صلاة المغرب في شرب الشاي، وأما من المغرب إلى العشاء ففي الجولات والصولات التي لا تنفع في دنيا ولا في آخرة، وأما من بعد العشاء، ففي السهرات وما أدراك ما السهرات وما السمرات في أعراض الأحياء والأموات!! ولا تنفع هذه الأوقات إلا أن تؤهل بتأهيل الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع} وذكر العمر والشبابا.
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
يقولون -كما تعرفون ذلك-: إن ابن عقيل الحنبلي ألف كتاب الفنون ثمانمائة مجلد في وقت الراحات، ولذلك كان هذا الكتاب عجباً من العجب، ما ألفه إلا في أوقات الراحة، فهل نستطيع أن نقرأ ثمانمائة مجلد.