[عبد الله بن عمر وابناه: سالم، وعاصم]
توفي على أحسن حال رضي الله عنه، وترك لنا عِلماً جماً، وترك لنا ولداً صالحاً باراً عالماً هو سالم بن عبد الله، وكان لا يفارقه أبداً، والعجيب أن سالماً هذا شابَ أكثر من شيب والده عبد الله، فكان ابن عمر إذا التقى به من سفر تعانقا وتباكيا كثيراً، ويقول ابن عمر: [[انظروا للشيخ يُقَبِّل الشيخ]] حتى كان يترك بعض الأسفار ليستقر مع سالم، وكان يترنم ببيت من الشعر يقول:
يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
وله أخ اسمه عاصم، استمر في طلب العلم والاستقامة، ثم وافاه الأجل فتوفي، فكان يبكي عليه ويقول:
فليت المنايا كن خلفن عاصماً فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
وأصل البيت:
فليت المنايا كن خلفن مالكاً فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
فحوله إلى عاصم.
ومالك المقصود به في البيت هذا مالك بن نويرة، أخو متمم، الذي قُتل في حربه مع خالد، ومتمم هذا كان أعور العين، ومن شعراء العرب، وكان مالك هذا من سادات العرب ومن كبارهم وأجاويدهم، فلما قُتِل بكى عليه أخوه حتى بكت عينه العوراء، وقال أعظم مرثية في تاريخ الإنسان
روى الترمذي بسنده عن عطاء قال: وقَفَتْ عائشة على قبر أخيها عبد الرحمن، فبكت طويلاً فاستشهدت بأبيات متمم في أخيه حيث قال:
وكنا كندمانَي جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعاً
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا
إلى أن قال:
فليت المنايا كن خلفن مالكاً فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
وزاد أحدهم بيتاً له:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتُها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وكانت من أعظم ما رُثِي به في التاريخ، حتى قال عمر: [[أدخلوا عليَّ متمماً]]؛ لأن عمر أنكر قتل خالد لـ مالك أخيه وقال: [[أبرأ إليك مما صنع خالد، وقال لـ أبي بكر اعزل خالداً، فما فعل أبو بكر وقال: والله لا أغمد سيفاً سله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن خالداً سيف من سيوف الله]] فلما تولى عمر كان أول مرسوم في خلافته عزل خالد، قيل: لهذه الأسباب، وقيل: لغيرها، فقال: [[أدخلوا عليَّ متمماً، قال: ماذا قلتَ في أخيك؟ فذكر أبياتاً، فبكى عمر حتى رثي له، وقال: يا ليتني كنت شاعراً فأرثي أخي زيداً - الذي مات في اليمامة، وهو زيد بن الخطاب - قال: أسلم قبلي، وهاجر قبلي، واستشهد قبلي]].
الشاهد: أن ابن عمر رضي الله عنه ترك لنا سالم بن عبد الله بن عمر، سالم الزاهد العابد الذي دخل في الحرم يطوف، فدخل سليمان بن عبد الملك الخليفة وقيل: هشام، فطاف فلما رآه الخليفة وحذاؤه في يديه وعليه ثياب وعمامة لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، قال: من هذا؟ قالوا: عالم المسلمين، فتقدم إليه وقال: أتريد مني حاجة؟ قال سالم: أما تستحي في بيت الله أن تقول لي هذا الكلام، فلما انتهى وقف له الخليفة ببني أمية وبالوزراء الذين معه والجيش حتى خرج، فقال: سألتك هل لك حاجة في الحرم فأخبرتني أن لا، فهل لك حاجة؟ قال: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: أما الدنيا فوالله ما سألتها من الذي يملكها سبحانه فكيف أسألها منك؟!
ولذلك يقولون: مات سالم بعين من هشام بن عبد الملك كما ذكر الذهبي أنه عانه هشام حيث نظر إليه وكان عليه أبهة العبادة، وجمال قيام الليل والحسن، فقال: يا سالم، أتأكل اللحم؟ قال: آكله في الأسبوع مرتين، قيل: فعانه فقتله، قال أهل المدينة: [[لا بارك الله في هشام أخذ أبناءنا إلى الثغور فقُتلوا، وقَتل عالمنا بعينه]].
وقد ذكرتُ هذا الأجل الرؤيا الخيرة، حتى أن البخاري كتب كتاب الرؤيا وذكر فيه أكثر من أربعين حديثاً.