للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الرقابة]

أولاً: من دعامات حماية هذا المنهج الرباني؛ الرقابة، وإني أطالب الجميع برقابة الواحد الأحد، وهي الرقابة التي ما وجدت في أي دستور ولا في أي قانون لا غربي ولا شرقي إلا في كتاب الله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:١٢٠] هل سمعتم بقانون أرضي يقول: وذروا ظاهر الإثم وباطنه؟

من الذي يقول: باطنه إلا الله؛ لأن الذي يعلم السر وأخفى هو الله، أما البشر فيستطيعون محاربة الجريمة بالحديد والنار والسياط والحبس، ولكن لا يستطيعون باطن الناس.

وما هو باطن الإثم؟

قالوا: فواحش القلب وبواطنه التي لا يعلمها إلا الله.

فالتعاليم الغربية والشرقية تمنع الجرائم الظاهرة في الغالب كالمخدرات والسرقة وقطع الطريق والنهب، لكنها لا تمنع جرائم القلب كالكبر والرياء والحسد والتهتك في حدود الله؛ لأنها لا تعلم شيئاً من قلب الإنسان ولا من علم الإنسان، وما يعلم ذلك إلا فاطر السماوات والأرض.

والرسول صلى الله عليه وسلم ربىَّ الناس على ذلك، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧].

يجلس صفوان بن أمية مع عمير بن وهب تحت ميزاب الكعبة قبل أن يسلما، فيقول صفوان بن أمية لـ عمير بن وهب والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وهما في مكة عند الكعبة، فيقول صفوان لـ عمير: أما ترى ماذا فعل محمد بنا في بدر؟

أما قتل آباءنا، وسفَّه أحلامنا، وسب آلهتنا؟

قال عمير بن وهب: وددت أن أحداً يقوم بأهلي وأطفالي وأذهب إليه وأقتله في المدينة.

يعني: القتل سهل، واغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في ذهنه أمر عادي، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يُحرس حتى نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] فحرسته عناية الله كما يقول شوقي:

وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان

وأما إذا لم تلاحظك عناية الله فأول من يقتلك هو حارسك، كما فعل بالمجرم شاوسسكو في رومانيا فقد جنَّد سبعين ألف جندي من الشرطة ليحرسوه، فكانوا سبباً في ذبحه كما تذبح الدجاجة في الشارع، وكان الشاه عند استافاك فما أغنى عنه سافاكه، وذهب شريداً طريداً وقتل مغضوباً عليه في الدنيا والآخرة.

قال عمير بن وهب: من يضمن لي ذلك؟

قال صفوان: الدم دمي والهدم هدمي، اذهب إليه فاقتله.

فذهب عمير بن وهب وتسلل بالسيف، فرآه عمر فجذبه وشده وخنقه وأتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: {يا رسول الله! خذ هذا الشيطان، قال عليه الصلاة والسلام: ماذا أتى بك يا عمير بن وهب؟

قال: أتيت أفتدي -اسمع الكذب المدبلج- أسارى بدر بالمال، قال صلى الله عليه وسلم: كذبت بل جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة فقال لك: كذا، وقلت له: كذا ثم جئت لتقتلني، وما كان الله يسلطك علي.

قال عمير بن وهب: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله وأسلم} الدخول إلى الدين بمعجزة.

تقول عائشة رضي الله عنها: [[سبحان من وسع سمعه كل شيء، والذي نفسي بيده! إني كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، وخولة بنت ثعلبة بجانب البيت تساره وتحاوره لا أسمع كلامها، فسمع الله كلامها من فوق سبع سماوات، فأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:١]]] رقابة تستحضر عظمة الله عز وجل لئلا تتعدى على المنهج الرباني.

وبائعة اللبن التي يذكرها ابن الجوزي في ترجمة عمر رضي الله عنه ويذكرها السيوطي وغيره:

مر عمر رضي الله عنه وهو يجوب الليل في المدينة، فقد كان يشتغل في العسة.

وكان هو الشرطي والجندي المجهول، يؤدب وينصح ويحرس ويسهر، فمر بباب فسمع امرأة تقول لابنتها: امزجي اللبن بالماء عله يكثر، فقالت البنت: إن عمر منع الناس من ذلك، أي: أن عمر أصدر مرسوماً بالمنع أن يمزج اللبن بالماء، حتى لا يُخدع الناس ويغشوا.

قالت الأم: وهل يعلم بنا عمر؟ وهو يسمع من وراء الباب.

قالت البنت: فإن لم يعلم بنا عمر أما يعلم بنا رب عمر؟! فبكى عمر عند الباب وأوسم الباب وخط عليه خطاً، ثم عاد في الصباح وطرق الباب وخطب البنت لابنه عاصم فتزوجها، وأنجب من تلك السلالة الطاهرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الرائد الراشد، والشاب المجاهد الذي أعاد الأمة الإسلامية إلى الله في رأس القرن الأول، وهو المجدد والمجتهد الأول، فهو ابن بائعة اللبن التي تقول: فإن لم يعلم عمر أما يعلم رب عمر، هذه مدرسة عمر مدرسة الرقابة، ويراها عمر مع راعي الغنم، يقول: بعني شاة، فيقول راعي الغنم: الشاة لسيدي، قال: قل: أكلها الذئب، قال: الله أكبر! أين الله يا عمر فجلس عمر يبكي ويقول: إي والله أين الله؟

وجدها هذا الإمام المعتبر مع راعي الغنم وبائعة اللبن ولم توجد الآن مع كبار الناس ووجهائهم ومع أناس لهم كلمتهم؛ لأن لا إله إلا الله لم تؤثر أثرها في حياة الجيل ولم تفعل فعلها كما فعلت في جيل محمد عليه الصلاة والسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يردد على أسماع أصحابه: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك}.

<<  <  ج:
ص:  >  >>