للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قصة عبد الله بن المبارك]

يقولون عن ابن المبارك وقد خرج من الحرم يريد الغزو في سبيل الله، وابن المبارك هذا رجل عجيب، هو زاهد وعابد ومحدث ومجاهد، وأنا اتلوا أخبارهم، ولو كنتم تعرفون ذلك، لكن قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:١١١] وأولئك آبائي، لكن نتلو أخبارهم علها تكون درساً للقلوب.

ابن المبارك يقولون عنه، أنه خرج في ذات يوم من خراسان للحج، وكان يسكن في مرو، فخرج بالقافلة، فلما وصل إلى الكوفة، ويريد بيت الله حاجاً، وإذا بامرأة خرجت من الكوفة، وأخذت غراباً ميتاً من مزبلة، فقال لمولاه: اذهب إلى هذه المرأة، واسألها لماذا أخَذَت الغراب الميت، فذهب إلى المرأة وسألها، قالت: والله ما في بيتنا قليل ولا كثير من قليل طعام، والله ما نأكل منذ ثلاثة أيام إلا ما يُلقى في هذه المزبلة من المَيْتَة، فعاد إلى ابن المبارك فأخبره فدمعت عينا ابن المبارك، فقال: نحن نأكل اللحم والفالوذج، وهم يأكلون الغربان الميتة، اصرفوا هذه القافلة بجميعها بحبوبها وزبيبها ولحمها وثيابها وجِمالها في أهل الكوفة، وعودوا لا حج لنا هذه السنة.

وعاد إلى خراسان ونام أول ليلة، فرأى قائلاً يقول في المنام: حج مبرور وسعي مشكور، وذنب مغفور، يقال لـ ابن المبارك: لماذا تخرج إلى الجهاد وتترك الحرم؟ قال:

بُغْضُ الحياة وخوفُ الله أخرجني وبيعُ نفسي بما ليست له ثمنا

إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا

ومن شب على شيء شاب عليه، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن قضى حياته في اللهو مات على اللهو.

يقول ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: وكان هناك رجل مطبلاً ومغنياً ومزمراً -وبعض الناس حياته تطبيل وتزمير وعرضات ورقصات- لا يعرف من الذِّكْر شيئاً قالوا له: قل لا إله إلا الله، قال:

يا رب سائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب

فمات عليها.

ويقول ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين، قالوا لرجل من التجار، وكان هائماً بالتجارة، والتجارة ليست حراماً، لكن التجارة يوم أن تصد عن منهج الله، وعن الصلاة والاستقامة، والخوف من الله، ويوم أن توصل صاحبها إلى الربا والغش والخيانة والتكبر فلا حيَّاها الله، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:٣٧] قالوا لتاجر: قل لا إله إلا الله، قال: "خمسة في ستة كم تصير" تصير إلى جهنم إذا لم تتق الله، أنت تصير برأسك إلى جهنم، إن لم تعد وتقل: لا إله إلا الله.

قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧].

حياة السلف كانت مع الله، وكانت أموالهم لله، وكان إنفاقهم وسعيهم وكدهم لله، صحيح كان من السلف تجار وأغنياء، لكن مالهم كان بأيدهم، ونحن أموالنا في قلوبنا، وقف عليه الصلاة والسلام على المنبر وقال: {من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فسكت الناس.

قال: من يجهز جيش تبوك وله الجنة؟ فقام عثمان وقال: أنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راض} حياة، ليس كـ التصوف الهندي، إن بعض الناس -الآن- يرى أن الدين كل الدين أن ينقطع عن الحياة وعن التجارة، والزراعة، والكسب، ويرى أن عكوفه في المسجد هي الحياة، لا.

الحياة أن تكسب ولكن في رضوانه، وتنفقها في رضوان الله، وفيما يقربك من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

يقول ابن كثير: دَخَلَت المدينة قافلة عددها سبعمائة جمل، محملة بالحبوب والزبيب، فكانت القافلة لـ عبد الرحمن بن عوف -أحد العشرة المبشرين بالجنة- فقال لتجار المدينة: [[من يشتري هذه القافلة؟ قالوا: نحن، قال: كم تعطونني في الدرهم، قالوا: نعطيك في الدرهم درهماً - أي: مضاعفاً - قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك درهمين، قال: وجدت من زادني، قالوا: ثلاثة، قال: وجدتُ من زادني، قالوا: نحن تجار المدينة، ولم يزدك أحد، قال: وجدت الله زادني في الدرهم عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، أشهدكم أنها في سبيل الله على فقراء المدينة، بزبيبها وحبها وثيابها وجِمالها في سبيل الله]] إنها الحياة يوم يعرفها الإنسان، فيتقرب بها إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجعلها طريقاً إلى الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>