[شرح حديث: عليكم من الأعمال ما تطيقون]
يقول: من هذه؟ فتقول: هذه فلانة، ثم تذكر عائشة من صلاتها، يعني أنها تقوم الليل وتكثر من النوافل والعبادة وكأنها ذكرت هذا والمرأة جالسة تسمع، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر، فيقول صلى الله عليه وسلم: مه، هذه كلمة عربية أصلها ما هذا؟ فاختصرتها العرب فقالت: مه، يقول صلى الله عليه وسلم: مه، يعني لماذا تقولين هذا الكلام، أو كيف تقولين هذا الكلام وهي جالسة، فكأنه أنكر عليها أن تمدحها في وجهها، لأن المدح هو الذبح، ويقول صلى الله عليه وسلم لأحد الناس يمدح صاحبه: {ويلك قطعت عنق صاحبك}.
وكأن الصحيح والراجح أن قوله صلى الله عليه وسلم مه، أي كيف تعجبين من كثرة عبادة هذه، ثم يذكر صلى الله عليه وسلم السبب، فيقول: {عليكم من الأعمال بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إلى الله، وفي -لفظ إليه- ما داوم عليه صاحبه} ينكر صلى الله عليه وسلم على عائشة أن تعجب بكثرة إجهاد هذه المرأة نفسها، ويقول: لا.
دين الله عز وجل سهل وميسر، فعليكم بما تطيقون، فإن الذي يكثر على نفسه ينقطع ويمل، فيقطع الله عنه الثواب، ولذلك يقول: خذ من العمل ما تستطيع أن تواصل عليه، وأن تستمر عليه، والإنسان فقيه نفسه، وأعرف بنفسه.
ولذلك لا تقلد أحداً في العبادة، ترى بعض الناس آتاه الله بسطة في الجسم وصحة وقوة، فيواصل الصيام والقيام، فتقلده في ذلك فتنقطع حتى ما تستطيع أن تصلي الظهر مع الناس، وهذا ليس مطلوباً؛ لأن الإنسان أعرف بنفسه، والناس طاقات، قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:٦٠].
يقول أحد العلماء في صحيح البخاري في شرحه: وقد جربنا وجرب الناس قبلنا أن من تنطع في العبادة، وغلا فيها، أنه يفضي به ذلك إلى الانقطاع، وإلى ترك المعهود والانصراف عنه، بل الذي يقتصد في العمل ويداوم أفضل عند الله عز وجل، لأن القليل المداوم خير من الكثير المنقطع.
يقول حافظ الحكمي:
عليك بالقصد بقول وعمل ودم عليه واجتهد ولا تمل
ولذلك يقول ابن الجوزي في شرح هذا الحديث: إنما كره صلى الله عليه وسلم الغلو والإفراط في العبادة لأنه يؤدي بصاحبه إلى الانقطاع، والمداومة على القليل خير من التكثير لسببين: الأول أن من داوم على قرع الباب دائماً يوشك أن يفتح له، تجد بعض الناس ينشط يوماً من الأيام على صلاة الضحى فيقوم فيصلي ثلاثين ركعة، لكن يأتي اليوم الثاني ويتفكر في تعبده، وأن ظهره كاد أن ينكسر أمس، فيقول: يكفي هذا، فلا يصلي أبداً، ولو أنه صلى ركعتين وداوم عليها لكان خيراً عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وأدوم وأحسن.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكلف الناس ويتكلم إلى الناس دائماً باليسر والسهولة، يقول لـ عبد الله بن عمرو: اختم القرآن في شهر، لكن يأتي الآن متحمس وهذا كثير في الشباب، فيقول: كيف أختم القرآن في شهر، بل أختمه في ثلاثة أيام إن شاء الله، بعد ذلك يختمه في سبعة شهور، ولذلك لو داوم عليه شهراً لما كره هذا الوقت، لكنه كره إلى نفسه العبادة فمل منها، ومل من الترداد فهجره أكثر من شهر.
ويقول أبو هريرة: {أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وصايا لا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام} وهذه سهلة ميسرة، يفعلها الإنسان ويداوم، لأن من يداوم على ركعتي الضحى في كل يوم يصلي في السنة سبعمائة ركعة، لكن لو قلت له: جزاك الله خيراً صل في اليوم سبعمائة ركعة من أجل أن ترتاح في السنة، لما استطاع ذلك، ولأفضى به ذلك إلى ما يفعله الصوفية، لأنهم يحسبون هذه ويجعلونها في اليوم، حتى يقول ابن القيم: بعضهم كان يصلي خمسمائة ركعة، وكان ينام وهو يصلي، أهم شيء فقط عندهم العدد؛ من قلة فقههم في دين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.