[بداية سفر موسى عليه السلام مع الخضر]
ومشيا في السفينة، ولما رأى ربان السفينة هذا الرجل الصالح والرسول النبي ورأى الجلالة والنور والوقار رفض أن يأخذ أجراً، وأن يأخذ أعطية على الركوب، فركبا وموسى ينظر في الخضر، فأول شيء قدمه أن أخذ ينزع خشب السفينة، ويكسره، ويلعب فيها، فيقول موسى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:٧١].
يقول: ما لك تتصرف في مال الناس! أناس أركبونا بلا أجرة، ورعونا، وأحسنوا فينا، ثم تقدم على هذا العمل، أما قال في أول القصة: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٦٧] إن موسى رجلٌ جرئ، شجاع، يتقدم المواقف العظيمة، لقي الله في طور سيناء، فكلم رب العزة من فوق سبع سموات، فما كفاه هذا التشريف حتى قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] فهو دائماً رجل مجادلة في الحق، وشجاعة وإقدام.
فقال الخضر لما اعترض عليه: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٢] يقول: أما ذكرتك أن تستمع للدرس ولا تقاطع المحاضرة حتى تنتهي، فإذا انتهيت فأورد ما عندك من إشكالات، فيقول موسى مستحياً معتذراً: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:٧٣].
يتبسم ابن عباس المفسر العظيم، الصحابي الجليل، ويقول: [[كانت الأولى من موسى نسياناً]] نسي في الأولى، فانطلقا؛ فلما نزلا من البحر مرَّا بقرية من القرى فإذا شباب يلعبون، وفتية يلهون، فتقدم الخضر إلى غلامٍ منهم فصرعه في الأرض، ثم ذبحه بالسكين، وقيل: فصل رأسه عن أكتافه، فثار دم موسى ووقف أمامه، وقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:٧٤] سامحناك في الأولى، وتغاضينا عنك، وصبرنا، ثم أتيت إلى نفسٍ معصومة فأزهقتها، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:٧٤] لا تطيقه القلوب أبداً، فقال الخضر له: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف:٧٥] وزاد (لَكَ) الجار والمجرور؛ ليذكره مرة ثانية بالعمل، {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٥] فيستحي موسى عليه السلام، ويراجع حسابه، ويقول معتذراً: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:٧٦] وتقف الأمور على الضربة الثالثة.
فانطلقا ودخلا قرية مع الظلام، وكانت القرية بخيلة، لا تطعم ضيفها، ولا تسقي الظمآن إذا ورد فيها، ولا ترحب بوافدها، والقرى تختلف اختلافاً عظيماً، والله هو الذي يكسب الجود لأهل الجود، ويعطي الكرم لأهل الكرم، ويكتب البخل لأهل البخل.
دخل النبي موسى عليه السلام، الذي ذكره الله في كتابه، معه الخضر {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:٧٧] زيادة في بخل هذه القرية طلب الإطعام، يقولان: أطعمونا فإننا مسافرون، جهدنا، جعنا، لكن قرية لا يظفر نازلها:
إني نزلت بكذابين ضيفهمُ عن القرى وعن الترحال محدودُ
جود الرجال من الأيدي وجودهمُ من اللسان فما كانوا ولا الجودُ
فامتنعت البيوت أن تضيف النبيين الكريمين الصالحين، فنزلا في مكان في طريق، ورأى الخضر جداراً يريد أن يميل، فقال لموسى عاوني لأبني هذا الجدار، فيقول موسى: يا سبحان الله! قرية لم تطعمنا، تبني جدارها، وسفينة أركبونا بلا عطية خربتها، فقام الخضر فبنى الجدار، وقال لموسى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:٧٨] وقبل أن نستمع إلى شرح الخضر لموسى قبل أن يفارقه، نعيش لحظات مع موسى وهو يترك بني إسرائيل ليتعلم العلم النافع، العلم الموروث من رب العزة تبارك وتعالى.
والدرس الثاني: شرف العلم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
والدرس الثالث: ما موقفنا نحن كأمة؛ أمة رائدة، تقود معالم التوحيد، وتريد إعطاء البشرية نورها، وتريد حياتها، وتريد مجدها، الكتب طبعت لدينا، وحققت ونشرت.