[أجوبة الخضر لما حصل منه]
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى ربهم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد: فقبل أن يفارق موسى عليه السلام الخضر، يتوقف معه الخضر؛ ليخبره بأجوبة الاستشكالات التي مرت في الرحلة، ويجيب على الأسئلة المضنية التي حيرت موسى عليه السلام، وجعلته يحتج دائماً وينكر ويتردد في هذا العمل الذي يقوم به الخضر.
قال الخضر عليه السلام: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:٧] واسمع إليها مسألة مسألة: أما السفينة يوم خرقت السفينة وأعدمتها: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:٧٩] هذا سرُّ المسألة يا موسى، لما ركبنا في السفينة كانت لمساكين، وكان هؤلاء المساكين يعملون عليها، وعند الشاطئ وعلى الساحل ملكٌ ظالمٌ جبار، يقف بالمرصاد للسفن، فكل سفينة أعجبته أخذها، وسلبها، واغتصبها، فأردتُ أن أعيبها بعض العيب، حتى لا يأخذها ذاك الظالم، عيبٌ لا يعطلها، ولا ينقص قيمتها، ولا يعطل رحلتها، فهل سمعت يا موسى أن هذه حكمة؟ فقنع موسى.
قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:٨٠ - ٨١].
أما الغلام الذي اعتديت عليه في الظاهر، والذي قتلته وأعدمته؛ فهذا غلامٌ ينشأ كافراً فاجراً، ينشأ عنيداً لله، كافراً بلا إله إلا الله، عاقاً لوالديه، فخشيت إذا نشأ على هذه النشأة أن يقحم أبويه في الكفر، وأن يخرج أبويه من الإسلام إلى الجاهلية، وأن يكون سبباً في إدخال أبويه النار {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:١٤ - ١٥] فأردت أن أقتله لعلَّ الله أن يُبدل الأبوين شاباً تقياً، وفتىً ورعاً؛ يكون مؤمناً بالله، ساجداً لله، معترفاً بلا إله إلا الله، فاقتنع موسى.
قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:٨٢].
هذا الجدار يريد أن ينقض، وإذا انهدم الجدار؛ خرج الكنز الذي تحت الجدار فأخذه الناس، والجدار هذا ليتيمين، والكنز ليتيمين، والسر أن أباهما كان صالحاً، فانظر إلى رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالى كيف حفظ هؤلاء الأبناء لصلاح والدهم.
ألا لتعلم أن الأب إذا كان صالحاً أصلح الله ذريته، وأصلح الله كل من يمون عليه.
ألا تعرف أن الصالح تجري بركته في الذرية، قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:٣٤].
ألم تعلم أن الفاجر يجري فجوره في ذريته، ويكون شؤماً على أولاده، وأولاد أولاده إلا أن يعصمهم الله ويتولاهم، فبنى الجدار، وهذا إرادةٌ من الله.
لكن قبل أن ننتهي، انظر إلى الخضر يوم قال في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:٧٩].
وقال في الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:٨١].
وقال في الجدار: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:٨٢].
فكيف تغيرت الإرادة؛ في السفينة أردت، وفي الغلام أردنا، وفي اليتامى فأراد ربك؟
إنه أدب مع الله:
أما السفينة فظاهرها الخراب، واستحيا أن يقول لموسى: فأراد الله، أو أردنا، فقال: فأردت أنا لأنني أنا الذي خربت وليس الله، وهذا أدبٌ مع الله.
وأما في الغلام ففيه مصلحة ومفسدة في الظاهر، فنسب المصلحة إلى الله والفساد إلى نفسه، فقال: فأردنا.
وأما الجدار فصلاحٌ كله، فنسب الصلاح إلى الله، فقال: فأراد ربك.
وهذا أدب مع الله، عرفه حتى الجن، فإنهم قالوا في سورة الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠] والذي يريد الشر هو الله يكتبه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ويكتب الخير لكن تأدبوا مع الله، فقالوا: أريد بهم، وقالوا في الخير: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠].
وانظر إلى إبراهيم عليه السلام يوم ذكر الحياة والإطعام، والشفاء إلى الله، ولما أتى إلى المرض فاستحيا من الله، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٨٠].
فما أحسن الأدب! وفارق التلميذ شيخه، وتوادعا، وعاد موسى متعلماً رائداً في رحلة المغامرة، وفي رحلة طلب الحق والعلم والذكر، وكان محقاً البخاري رحمه الله يوم قال: (باب: السفر في البحر لطلب العلم) فإن كان هذا في البحر ففي البر أولى.
فيا أيها المسلمون! أدعوكم ونفسي لطلب العلم، وحضور مجالس الذكر، والتفقه في الدين، والسؤال، فإن الله عزوجل لا يهلك أحداً حتى يعلمه ويبصره، فمن أراد الحياة أحياه، ومن أراد الهلاك أهلكه: {ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار؛ من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك ومنِّك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم كفِّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، واهدهم سبل السلام، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان؛ الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك، ولتأييد سنة نبيك عليه الصلاة والسلام.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.