للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الوليد بن المغيرة وأذيته للنبي صلى الله عليه وسلم]

وممن آذى الرسول صلى الله عليه وسلم الوليد بن المغيرة، أبو خالد بن الوليد، كان عنده عشرة أبناء، وكان تاجراً وذا مالٍ في مكة، كان يكسو الكعبة سنة، وكفار قريش يجتمعون في كسوة الكعبة في سنة، الوليد بن المغيرة كان الذهب عنده يقسم بالفئوس، إذا أراد أن يحضر نوادي مكة أو ولائم مكة جعل خمسة من أبنائه عن يمينه وخمسة عن يساره، هو صاحب عشرة أبناء، فالله سوف يعترض عليه الآن وسوف يدمغه القرآن بعد قليل.

أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع كفار قريش، قال: يا معشر قريش! دعوني أذهب إلى محمد وأفاوضه، قالوا: اذهب، فجلس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وطلب منه أن يترك دعوته، وطلب منه ألا يقطع الأرحام، كأن الذي قطع الأرحام رسول الله صلى الله عليه وسلم -وألاَّ يسب الآلهة، أي: الأصنام، قال: وألاَّ يثير على قومه فتنة، ولا يفتح عليهم باب قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: انتهيت يا أبا المغيرة؟ قال: نعم انتهيت، قال: اسمع، لا يرد صلى الله عليه وسلم من عنده، يرد بسورة فصلت، فبدأ صلى الله عليه وسلم من أولها، ثم قرأ عليه بصوت الرسول صلى الله عليه وسلم، وذاك مبهوت أمام الرسول صلى الله عليه وسلم كالصنم، ثم بلغ صلى الله عليه وسلم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣].

فقام الوليد فجعل يده على فم الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: أسألك بالله والرحم، يقول: أسألك بالله لا تزيد علينا من هذا؛ لأنه بلغ إلى أضلاعه وأقطار نفسه ودخل قلبه، فقام بوجه كقطع الليل المظلم متأثراً، فرجع إلى كفار قريش، قال كفار قريش: والله لقد جاءكم الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، قالوا: ماذا رأيت؟ قال: سمعت الشعر هزجه ورجزه وليس بشعر، وسمعت السحر نفثه ورفثه، وليس بسحر، وسمعت الكهانة وليس بكهانة، قالوا: ما هو؟ قال: كلام يعلو ولا يُعلى عليه، أسفله مغدق وأعلاه مثمر، له حلاوة، وعليه طلاوة، قالوا: لا تبرح من هذا المكان حتى تقول فيه كلاماً وإلا قاطعناك.

فجلس، والقرآن ينقل لنا صورة الرجل وهو يتكلم، قال: فجلس وفكر، ثم رفع طرفه يبحث عن كلام يغمز به القرآن، ثم تأمل قليلاً ثم عاد، فقال: إن هو إلا سحر يؤثر، اسمع كيف يرد عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:١١] يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: اتركني وهذا المجرم، وأنت إذا تركتني لهذا المجرم أنا أنصفك منه، كقولك ولله المثل الأعلى: اتركني وفلاناً، لا تتدخل بيني وبين فلان أنا أكفيك فلاناً، فالله يقول: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:١١] يقول: هذا خلقته واحداً، لكن عنده عشرة أبناء الآن: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:١٢] من الذي جعل له المال؟ من الذي خوَّله؟ من الذي أعطاه؟ الله، يقول: أنا الذي أعطيته، وأنا الذي سوف أحاسبه {وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:١٣] قال أهل التفسير: يشهدون المحافل معه، منهم خالد بن الوليد لكنه أسلم، وأحد الأئمة رحمه الله، يقولون: كان يصلي في الحرم، وكان وراءه خالد بن الوليد، فصلى خالد رمضان هناك، فلما أتى الإمام إلى هذه السورة قفزها.

هذا مشرك نعم، لكن تقدير المشاعر وارد، أبوه الوليد في النار، لكن خالد هو سيف الله المسلول، هذا أبو سليمان الذي فتح المشرق وراءه، قال: فمن احترامه وتقديره قفز في سورة المدثر، وهذه ذكرها التاريخ، لأن خالداً يعرف من هو المقصود، أنت تصور في أسرتك أنه يقرأ عليك في الحرم القرآن وهو في أبيك وفي أسرتك ألا تتأثر ولو كان أبوك كافراً؟ البشر بشر، قال: قفزها وتركها، فقالوا: يسمونه النبيل، سموا هذا الإمام نبيلاً لعقله وذكائه وفطنته، وإلا فلا يهدر شيء من كلام الله عز وجل.

قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} [المدثر:١١ - ١٤] أي: أصلحت له الأمور، ولذلك ترى كثيراً من الكفرة تتكسر العقبات في طريقهم، تجد الفاجر يعيش ستين سنة لا يبكي أبداً، ولا يتضور من الجوع ولا يظمأ ولا تحدث له مشكلة، كل شيء معبد في طريقه، إن ذهب يراجع فالشفاعات أمامه، إن ذهب في مصلحة وجدت الواساطات قبله، إن أراد شيئاً وجد الفيتامينات، تسمى فيتامينات (و) تسهل عليه كل مهمة.

بينما تجد بعض الصالحين الأولياء الكبار، مبهذل في الحياة، جائعاً وأسرته جائعة، وإذا تقدم إلى طلب رُفِضَ طلبه.

ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع الصحابة، وعنده أبو ذر الغفاري، فمر رجل على فرس في ديباج أخضر ومعه سيف، وفرسه له إشارة طويلة، فقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: ما رأيك في هذا الرجل؟ -هذه موازين محمد عليه الصلاة والسلام، ليست موازين العروبة والقومية الخاسرة القبيحة- قال أبو ذر: هذا جدير إن شفع أن يشفع -أي: إذا توسط عند الناس أن تقبل وساطته- وإذا نكح أن ينكح -إذا أراد أن يخطب امرأة زوجوه ولم يردوه- وإذا قال أن يسمع له، فتبسم صلى الله عليه وسلم وسكت.

فمر رجلٌ فقير يمشي على الأرض، عليه ثياب مقطعة مرقعة وجائع وعليه تضور الجوع والفقر، قال: يا أبا ذر! ما رأيك في هذا؟ قال: هذا جدير إذا شفع ألا يشفع -لا تقبل له وساطة، ولذلك بعض الناس لا يدخل من الأبواب، ينام على الرصيف، ولا يقبل كلامه، ولا يلتفت ولا ينظر إليه، ولا يسلم عليه أصلاً- قال: وجدير إذا نكح ألا ينكح -لا يزوج- وإذا قال: ألا يسمع، قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! والذي نفسي بيده، إن هذا الرجل خير من ملء الأرض من ملء ذاك} لماذا؟ لأن الموازين عند الواحد الأحد.

يقول: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:١ - ٣] قال أهل التفسير: تحفض أناساً كانوا مرفوعين في الدنيا بالكذب، وترفع أناساً كانوا مخفوضين في الدنيا، هذه موازين الله عز وجل.

والمقصود، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزيد} [المدثر:١٥] هذا المجرم كذلك يطمع أن أزيد أمواله وهو يفعل كذا: {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:١٦] بآيات الله عز وجل الشرعية القرآنية {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:١٧] الصعود: جبلٌ في جهنم نعوذ بالله منه، يقول: يصعده يصعده وله نفس، فإذا بلغ منتهاه سقط إلى آخره، ثم يصعد، وهذه تسمى الأعمال الشاقة التي اكتشفها هتلر، أن يصعد الإنسان، لكن عذاب الآخرة أشد وأخزى، فإذا صعد ووصل رأس الجبل، يقولون: يصعده ما يقارب سبعين سنة، فإذا انتهى إلى أعلاه سقط إلى آخره وهكذا.

{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:١٨] الآن يصف لك المجلس الذي جلسه، فكر، أي: ماذا يريد أن يطعن في هذا القرآن، ماذا يريد أن يتقول على هذا القرآن، أعظم معجزة هو هذا القرآن، أحد المستشرقين أسلم، وأنتم تعرفونه أنه يوسف، اعتنق الإسلام وحيته الصحف، يقولون: إن من أسباب إسلامه، ولو أنها رويت عن رجل أمريكي آخر، لكنها نقلت عن هذا كذلك، أنه أتى يقرأ القرآن، الآن أي كتاب يؤلف من كتب البشر التي بأيدينا، كل كتب المكتبات الإسلامية في أولها يقول المؤلف: وأنا أعتذر إلى الإخوة القراء، أو كلام يشبه هذا، إن ند بيان، أو تلعثم لفظ، أو أخطأت في مسألة، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، فالمعذرة، هكذا البشر يقولون إذا ألفوا كتاباً اعتذروا إلى قرائه، أما الله عز وجل فما اعتذر لأحد من الناس، يقول في كتابه: (الم) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:٢] يقول: أتحدى أن يوجد فيه ريب أو خطأ، ويقول بعدها: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:٨٢] ثم يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإنس وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:٨٨].

الآن اسمع في صلاة التراويح، كأن الآية أول مرة تسمعها في حياتك، كأنك ما سمعت بها إلا هذه الليلة، كأنها أنزلت هذه الليلة فحسب.

لما مات صلى الله عليه وسلم، قام عمر يقول: [[يا معشر الناس! من زعم أن محمداً قد مات ضربتُ عنقه بهذا السيف]] فأتى أبو بكر، فقال: [[رويدك يا ابن الخطاب]] ثم قام أبو بكر يتلو قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤] قال عمر: [[والله الذي لا إله إلا هو، كأنها أول مرة أسمع هذه الآية]] ثم أغمي على عمر، هذه جدارة القرآن.

يقول: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّر * ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:١٨ - ٢١] الآن بدأ يصف لنا مجلسه مع كفار قريش.

يقول: نظر إلى السماء يتفكر ماذا يطعن في القرآن: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:٢٢] عبس وجهه: أظلم وجهه، وبسر: كلح، هذا أسلوب القرآن يخاطبهم باللغة العربية الفصحى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:٢٣ - ٢٤] أي: ينقل {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٥ - ٢٦].

الفيصل مع هذا المجرم، وذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:١٠] وكان كثير الحلف فجوراً وإعراضاً وصداً عن منهج الله، ووصفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:١١] الهماز: هو العياب الطعان، مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ: ينقل الأحاديث للإفساد بين الناس: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:١٢ - ١٣] عتل: غليظ القلب، بعد ذلك زنيم، قيل: بخيل {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:١٤ - ١٦] يقولون: ضرب على أنفه الخرطوم، وقيل: في الآخرة سوف يضرب على أنفه الخرطوم، وإنما قال: الخرطوم، وإلا كان يقول: الأنف، لكن من باب أن يلحقه بعالم الحيوانات؛ لأن الخرطوم للفيل ولأمثاله، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:١٦] والعرب تدري بهذا، وتعرف ما هي دلالة هذه الألفاظ.

<<  <  ج:
ص:  >  >>