للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)]

قال سبحانه: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] وعبارات القرآن صغيرة لكنها قواعد كلية، وتواصوا: أي: تناصحوا، وأهل السنة يتناصحون وأهل البدعة يتفاضحون.

قال علي: [[المؤمنون نصحة والمنافقون غششة]].

ولا يمكن أن يحيا المجتمع المسلم إلا بالنصيحة والتواصي، ولكن النصيحة لا بد فيها من الستر واللين والإخلاص، الإخلاص لوجه الله، وأن تستره عن عيون الناس، فلا تفضحه على رءوس الأشهاد، وأن تلين له في العبادة لتسبي قلبه، هذه آداب النصيحة.

وأما الأمم الأخرى فلا يتواصون، تجد المنحرفين في الظاهر إخواناً ولكن في الباطن بعضهم يجرح بعض {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:١٤] {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٨ - ٧٩].

أما المؤمنون فإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، هذه رابطة المؤمنين أنهم يتناصحون، نعمل فيما اتفقنا عليه، ولينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه، لا يعذر بل ينصح ويوجه ويوصي، ولا نقر بدعة ولكننا ننصح إخواننا في أخطائهم وينصحوننا في أخطائنا حتى نكون مجتمعاً رائداً يحبه الله.

الحق: ما هو الحق؟

الحق هو الشيء البين الواضح، والله سمى نفسه الحق، فقال: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:٢٥] الذي لا تلتبس في معرفته الأفهام، ولا تختلف في إدراكه الأذهان، ولا تتغير عن حبه إذا أحبته القلوب، ولا تلتبس عن السير إليه الأرواح، هذا هو الله الحق المبين.

وسمى دينه حق: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:٢٣] أي: ما ذكره من أمر الآيات هو حق مثل كلامكم، وسمى القرآن حق فقال: {أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [فاطر:٢٤] أي: بالقرآن {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال:٨] والحق الذي يدعى إليه هو ما في الكتاب والسنة، فإن ما في سوى الكتاب والسنة إن كان يعارض القرآن فهو باطل {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:٨١] الحق هو ما في الكتاب والسنة، والحق سوف تكون له العاقبة وسوف تكون له الأصالة ولذلك انظر الآن إلى مستقبل الإسلام في الأرض، الإسلام يُسَير بنفسه اليوم، ليس وراءه إغراء ولا مال ولا مستشفيات ولا مدارس ولا خدمات، والنصرانية وراءها الملايين المملينة والآلاف المؤلفة، ووراءها الإغراءات وتخفق في الساحة، لأن الله هو الحق المبين، ولأن الأصالة للدين، وانظروا إلى الأخبار إلى الصحف اليومية وغيرها أخبار تركستان وأذربيجان وأزبيكان كلها تعلن أن الله هو الحق المبين {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:١٧].

ستعلم في القيام إذا اجتمعنا إلى الرحمن من فينا صدوقا

وقال سبحانه: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] الحق لا بد له من صبر، الصلاة لا تقوم إلا بصبر وكذلك الحج والعمرة والصيام وقراءة القرآن {واعلم أن النصر مع الصبر} , والصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على المقدور.

الصبر على الطاعة أن تؤديها كاملة محتسباً الأجر من الله.

والصبر على المعصية أن تكف نفسك صابراً عنها خائفاً من عذاب الله.

والصبر على المقدور أن تسلم وترضى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧].

وهذا شاعر يمدح رجل صابر، بالصبر والاحتمال فيقول:

صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبرا

يقول سبحانه وتعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:٢٠٠] وعبارات القرآن منتقاة {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠] فيقول هذا الشاعر للبطل أي: في المعركة صابر الأبطال؛ لأنه دائماً لا يفوز إلا الصابر، حتى في الدراسات والمعارك والحروب والقراءة والتحصيل والتجارة والعبادة لا يفوز إلا الصابر.

كان عنترة جسمه متوسط مثل أجسام الناس لكنه يضرب رءوس الأبطال ودائماً يفوز، قال له أحد الأبطال: بما غلبت الناس؟ قال: ضع إصبعك في فمي، فوضعها، وأنا أضع إصبعي في فمك، وعض إصبعي وأعض إصبعك، فعض ذاك وعض هذا فصبر عنترة، وذاك ما صبر، حتى قال: آه، ثم رفع يده وقال: بهذا غلبت الناس.

أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلامٍ وقاح

بهمةٍ تخرج ماء الصفا وعزمة ما شابها قول آح

يعني: ما تعرف آه ولا آح، يقول هذا البطل في المعركة:

صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبرا

يقول: فلما فر الصبر؛ قال هذا الصبور للصبر: اصبر، يعني: ما انتهينا لماذا تفر، وهذا يمدح به الأبطال، حتى يقول أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي في المرثية الرائعة التي يقول فيها المعتصم لما سمعها: يا ليتني قتلت وقيلت فيَّ، يقول فيها:

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

يقول عن البطل الشهيد رحمه الله:

فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر

يقول: أنا لا أفر حتى لو تقوم القيامة والبركان من تحت أرجلهم، يقول:

وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر

تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر

كما يفعل شباب لا إله إلا الله في أفغانستان، يوم لبسوا لا إله إلا الله فرت الدبابات من طريقهم وتفجرت، حفنة من تراب تفجر دبابة، وشيء من قنبلة صغيرة يفجر معسكر.

تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر

وهذا استطراد لا بد منه لربط القرآن بالواقع.

قال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] والله يقول: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧] يا محمد الطريق طويل اصبر، الأعداء كثر، الجبهات مفتحة من كل جانب اصبر، العبادات كثيرة اصبر، المناهج الأرضية سوف تزاحمك بمناكبها اصبر، الاغتيالات والتدبير والدسائس والدنميت والألغام كثيرة اصبر.

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧] الآن الذي يستمع القرآن يجد أن الجبهات فتحت عليه صلى الله عليه وسلم من كل جانب، اليهود في صراع معه، والنصارى في صراع، والملاحدة، وكل أمم الأرض، والمجوس، والمؤمنون يسألون، والمرأة تستفتي، وقيام الليل والعبادة والجهاد والدولة الإسلامية والإدراة والاقتصاد، فقال الله له:: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:١٢٧] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:٤٣] ويقول سبحانه على لسان لقمان وهو يوصي ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:١٧] لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ تأتيه ضربات، يلكم مرة، ومرة يضرب، ومرة يصرع، ومرة يشلح، فهو دائماً مصاب، يقول:

محسد الفضل مكذوب على أثري إن العزيز عزيز أينما كانا

والمؤمن هذه حالته دائماً يتعرض للشائعات المغرضة وللمضايقة قال الله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:١٧].

<<  <  ج:
ص:  >  >>