[عبادة الله وإقامة أركان الإسلام طريق إلى الجنة]
جاء في الترمذي بسند حسن، أن معاذاً سرى مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس في آخر الليل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان له ورد من القيام في آخر الليل يناجي فيه ربه، يشكو على ربه ذنوبه وخطاياه وتقصيره وهو سيد الخلق وأعرف الناس بربه ومولاه، والليل عجيب! الليل يحب القرآن والقرآن يحب الليل.
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
قال معاذ: {يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ -وفي لفظ صحيح-: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار} ما أحسن السؤال! دل على اختيارك سؤالك؛ لأن هذا من انبعاث الإيمان وحرارته وشوقه حين يسأل عن طريق الجنة، دلني على عمل إذا عملته، يقربني من الجنة: ويباعدني من النار، هذا سؤال من أعظم الأسئلة والأطروحات التي وردت في كل العالم، ومن أعظم الأسئلة التي وردت في تاريخ البشرية، ومن هو المجيب؟ إنه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، الدليل الماهر الذي عرف الطريق وما عرف العالم مصلحاً كمثل محمد صلى الله عليه وسلم، عرف ذلك الأعداء قبل الأصدقاء، عرف ذلك الفلاسفة الذين هم أذناب الصابئة المجوس كـ ابن سينا يوم يقول في كتابه الإشارات: ما طرق العالم مصلح كمحمد عليه الصلاة والسلام، ولفظه يقول: ما طرق العالم ناموس كناموس هذه الرسالة.
وهذا أمر معروف، فيجيب صلى الله عليه وسلم على معاذ، هل قال: تدخل الجنة بالمؤهل، أو بالمنصب، أو بالشهادة والمرتقى، أو بالمال والولد؟ لا والله كلها لا تساوي في ميزان الحق ذرة، ويوم يتخلى المال عن الإيمان يصبح تبعةً ولعنةً وغضباً، ويوم يتخلى المنصب عن الإيمان يصبح فرعونياً دكتاتورياً طاغية، ويوم يتخلى الولد عن الإيمان يصبح عذاباً وشقوةً وندامةً، ويوم تتخلى الشهرة عن الإيمان تصبح ملعنةً ومسبةً على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ثم إذا تخلى الحب عن الإيمان أصبح حب المعشوقين والمعشوقات، والمغنيين والمغنيات، والفنانين والفنانات، ويوم يتخلى الشعر عن الإيمان يصبح كلاماً مصففاً مزجياً كبضاعة الأخسة الذين طفروا بها وهي في ميزان باطلهم تتردى معهم في جهنم، يوم يحاسب الله المجرمين على كلماتهم، والخبيثين على تصرفاتهم، يحاسب الله عز وجل هؤلاء وأولئك لأنهم جردوا الحب والمنصب والمال والولد عن الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام وهو يجيب معاذاً: {لقد سألت عن عظيم} هذا السؤال عظيم، إن بعض الناس يسأل عن تكبيرة الإحرام، أو وضع اليدين، أو سجود السهو، أو المسح على الخفين أو التيمم، لكن العلامة الجهبذ معاذاً سأل عن سؤالٍ خطيرٍ محتواه أمر صعب وهائل وكبير، {لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه} فيا من يسر للصالحين طريقهم! يسر لنا طريقنا، العون والسداد والهداية منك وحدك وما جلسنا -إن شاء الله، ويعلم الله- إلا نريد نوراً وتوفيقاً وهداية من الله سبحانه.
وإذا كان عاقبة مجالسنا واجتماعاتنا هذه غير محمودة فالشكوى إلى الله، والله المستعان.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
إنها تنعكس عليه المقاصد، {لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه} وهذا يسمى (الإجمال في الجواب قبل التفصيل) وهو أسلوب قرآني، ويسمى عند أهل البلاغة: اللف ثم النشر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه} فما هو اليسير؟ وما هو هذا الجواب؟ وما هو طريق الجنة؟ قال: {تعبد الله عز وجل ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً -ثم قال له صلى الله عليه وسلم وهو يواصل حديثه الشائق الرائق إلى القلوب الوالهة- يقول: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} ثم يواصل صلى الله عليه وسلم في طريق الجنة وفي وصفها، قال: {ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة} أي وقاء لك، تجتن به، وتتحصن به من النار، لذلك يقول عمر بن أبي ربيعة:
وكان مجني دون ما كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فيقول: إن كنت تريد الجنة والغطاء والساتر عن النار فالصوم، {الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل بجوف الليل ثم تلا عليه الصلاة والسلام {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:١٦]} ثم يقول عليه الصلاة والسلام ليختتم باللف بعد النشر، وبالإجمال بعد التفصيل فيقول: {ألا أدلك على ملاك ذلك كله} أي على ما يجمع لك شتات هذا الموضوع، {قال: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا، وأخذ عليه الصلاة والسلام بلسان نفسه، قال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟} إلى اليوم سيد العلماء لا يعرف أن الكلام يسجل في عالم الخطيئات، وأن له حسنات ومثوبات وسيئات وعقوبات، قال: {ثكلتك أمك يا معاذ! -أيخفى عليك هذا والخطايا أكثرها من اللسان- وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم} صلى الله وسلم على صاحب ذاك الجواب.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا