[قلة المربين والربانيين]
ومما يعاني منه الشباب قلة المربين والعلماء الربانيين، فقد أصبحوا أندر من الذهب, وأعز من الكبريت الأحمر.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل
وأصبح الآن يذكر في المدن عالمٌ واحد, ممن يحمل الشريعة، ويؤتمن على الميثاق، وعلى الكلمة الحقة, وأصبح كما قال بعض الفضلاء: لو جمعنا الدعاة في البلاد في منطقة واحدة أو في مدينة, ما غطوا حاجتها, وأصبحت بعض المدن لا تقام فيها المحاضرة في السنة إلا مرة أو مرتين, وأصبح هناك فقر مدقع في الدروس العلمية, بينما تمطر الأمة بوابل من الغثاء صباح مساء, فالصحف والمجلات والوسائل كلها ترغي وتزبد بما لا ينفع.
ولكن مع قلة المربين والدعاة فإننا نرى جهد أعداء الله كما قال الله؛ والله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:١٧] ولو أنه تصرف الأموال, وتهيأ الوسائل, وتدرس البرامج, ولكن لا يهمك أمرهم {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:٣٦] ويبقى الحق منتصراً مع قلة وسائله وقلة ما يلمع أو يزخرف أو يوجه.
أصبح كثير من العلماء يشتغل بالنفع اللازم من نوافل المستحبات والزهد والورع, لكنه عند ابن تيمية وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام ورع بارد؛ ورع والأمة تغرف؟! ورع والأمة تصادر كرامتها وحريتها؟! ورع والأمة تفصل من لا إله إلا الله؟! ورع والأمة تحول عن القبلة؟! ورع والأمة توصل بحبال إلى الغازي المستعمر؟! أي ورع هذا؟! وصنف آخر يتشاغل بفضول العلم، وتوليد المسائل، وتفريع الفرعيات على حساب الأولويات والمهمات, فلا ينزل للجيل ولا يقود المسيرة, ولا يوجه الطاقات, ولا يعظ, ولا يأمر, ولا ينهى, فأي علم هذا وأي فائدة؟!
المكتبات تغرق بوابل من التأليفات في الجزئيات حتى أُلِّفَ في مسألة المسبحة ما يقارب خمسة كتب مجلدات.
ولكن من يسبح بهذه الأمة إلى شاطئ الأمان؟ إنهم رواد محمد صلى الله عليه وسلم الذين يعلمون الناس, كما قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:٧٩] قيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره, وقيل: هو الذي يكون إماما في الخير ويعلم ويربي بفعله.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} [السجدة:٢٤] هل قال: في بيوتهم أو زوايا مساجدهم؟ لا بل قال: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤] يقول عليه الصلاة والسلام {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
إن القلة القليلة التي تتبوأ مكان الصدارة تحتاج إلى من يرفدها ويعينها من القاعدين الآخرين، الذين رضوا بالجلوس في بيوتهم، وأفتاهم الشيطان ببعض الفتاوى التي لا تصلح في هذا الزمن, بل هو زمن الصراع العالمي والجهاد وأن تبدو ببضاعتك، وأن تنشر بزك, وأن تكون مرفوع الرأس.