وأراد فليكن ولكنه حذف النون لسكونها وسكون الياء الأولى من التبريح وكان الوجه أن يكسرها لالتقائهما لأنها حرف صحيح، قال أبو العلاء: وقد جاءت أشياء من حذفها في موضع التحريك أنشد أبو زيد:
لم يَكُ الحَقُّ على أن هَاجَه ... رَسمُ دَارٍ قد تعفّتْ بالسَّرَرْ
فلو ظهرت النون هاهنا لقيل لم يكن الحق، وفي بعض الرجز القديم: ومَن يَكُ الدَّهرُ له بمرصدِ وهذه النون إذا حذفوها شبهوها بالتنوين، وهي أشد قوة منه لأنها من نفس الكلمة. والتنوين زائد، وقد أنشد سيبويه بيتا حذفت منه النون لكن في الموضع الذي يجب فيه حركتها وهو قول النجاشي:
فَلَستُ بآتِيه ولا أستَطِيعُه ... ولاكِ اسقني إن كانَ ماؤُكَ ذا فضل
قال ابن فورجة: كثير من العلماء قد تكلموا في هذا البيت ووفوه حقه من قرائحهم. ومضى أكثر الكلام في تجويز حذف النون في قوله فليك، وتمحلوا له معاذير، وإنما أتيت به لنكتة عرضت في معناه، قال القاضي أبو الحسن علي بن العزيز الجرجاني: خالف أبو الطيب بين معنيي المصراعين، ومثل هذا كثير، فقد جاء عنهم ما ناقض المصراع الثاني به المصراع الأول، مثل قول زهير:
قِفْ بالطّلولِ التي لم يَعفُها القِدَمُ ... بلَى وغَيّرَها الأرواحُ والدّيَمُ
قال القاضي: وبين المصراعين اتصال لطيف، وهو أنه لما خبر عن عظم تبريحه، وشدة أسفه، بين أن الذي أورثه التبريح والأسف هو الرشأ الأغن الذي شككه غلبة الغزلان عليه في غذائه. قلت: ويحتمل معنى ألطف من هذا وهو أنه يريد ما غذاء هذا الرشأ الأغن إلا القلوب والأبدان والعشاق يهز لها ويمرضها ويبرح بها كما صرح به في بيت آخر، إلا أنه نحا به منحى غير الغزل، وهو قوله:
وَتَرتَعُ دُونَ نَبتِ الأرضِ فينا ... فَمَا فارَقتُها إلاَّ جَديِبا
وقد صرح بعض المحدثين بهذا المعنى فقال: يَرعَى القُلُوبَ وَتَرتَعي الغِزلانُ بَروَقَةً وشيحه
وَفَشَتْ سَرائِرُنَا إلَيكَ وَشَفَّنا ... تَعرِيضُنا فَبَدَا لكَ التصرِيحُ
قال أبو الفتح ابن جني: يقول لما عرضنا لك بهواك، قام مقام التصريح منا لك. ويجوز أن يكون عرضنا بمودتك فصرحت بالهجر والبين، ويجوز أن يكون المعنى لما أجهدنا التعريض استرحنا إلى التصريح فأنتهك الستر وهذا أقوى الوجوه عندي وقد جاء في الشعر مجيئا واسعا.
لَّما تَقَطَّعَتِ الحُمُولُ تَقَطَّعَتْ ... نَفسِي أسَى وكأنَّهُنَّ طُلُوحُ
قال أبو العلاء: الحمول هاهنا القوم المتحملون، وقوله تقطعت الحمول أي سبق بعضها بعضا. والشعراء المتقدمون يشبهون الحمول السائر بالنخيل وادلوم، والطلوح هاهنا جمع طلح من الشجر ولو ادعى أن الطلوح هاهنا جمع طلح طليح وهو المعنى لم يتعد ذلك، ويكون المعنى أن النساء المحمولات على الإبل قد أثقلتها لعظم أجسامهن. وكان أبو الطيب مولعا بمثل هذه الصفة من ذلك قوله:
تَشكُو رَوادِفَكِ المطَيَّةُ فَوقَها ... شَكوَى التي وَجَدتْ هَواكِ دَخيلا
والقول الأول أشبه.
نازَعتُهُ قُلُصَ الرّكابِ وَرَكبُها ... خَوفَ الهَلاكِ حُدَاهُمُ التَّسبِيحُ
قال ابن جني: نازعته، أي أخذت منه بقطعي إياه بما نال من الركاب وأعطيته.
قال الأعشى:
نازعتُهم قُضُبَ الرَّيحانِ مُتَّكئاً ... وَقَهوَةً مُزَّةً رَواقُها خَضِلُ
أي أخذت منهم وأعطيتهم. قال أبو العلاء: قال لي ابن سعد إن المتنبي قال: ما قصرت المحدود إلا في قولي: حداهم التسبيح.
شِمنَا وما حَجَبَ السَّماءُ بُروُقَهُ ... وحَرى يَجودُ ومَا مَرَتهُ الرّيحُ
قال ابن جني: أي شمنا بروقه، ولم يحجب السماء لأنه ليس غما فيسترها، ولأنه ليس هناك غيم في الحقيقة وإنما أراد مخايل عطائه ومرته استدرته أي هو أن يجود ولم ثمره الريح. بفضله على السحاب، لأن السحاب يستر وجه السماء ولا يدر إذا استدرته الريح.
قال أبو العلاء: هو حري بذاك أي جدير به، والمعنى: وحري أن يجود فحذف أن للضرورة ويقال) حرى وحري (فإذا شددت الياء ثني وجمع لأنه ليس بمصدر، وإذا قيل) حرى (لم يثن ولم يجمع وأستعمل للمذكر والمؤنث على جهة واحدة قال الشاعر:
وهنَّ حَرَّى أنْ لا يُثِبنَكَ نَقرةً ... وأنتَ حَرَّى بالنَّارِ حينَ تُثِيبُ
حرف الدال