وإنما سميت أتان لان هذه الصخرة تلامس بالطحلب فشبهت بالأتان التي املاست فأكثر لحمها. والأتان أيضا مكان على حافة البئر سمي بذلك لاملاسه، ونراكب الطحلب عليه. وإنما يعني أني إذا زوحمت لم يقدر إزالتي عن موضعي كما أن هذه الصخرة لا تزال عن موضعها يريد لا أزال عن شر في وفضلي عند المساماة والمفاخرة. أو يعني أني إذا حاربت لم انهزم. وقوله) فإذا نطقت فإنني الجوزاء (فإن المنجمين يزعمون أن الجوزاء من البروج التي تختص بالكتاب. فهو وصاحبه عطارد يدلان على المنطق والبراعة فيقول: أنا الجوزاء، أي: مني تستفاد البراعة، ومني يقتبس الفضل كما أن الجوزاء تعطي من يولد به البراعة والنطق وإلى هذا أشار بقوله:
ومني استفاد الناس كل غريبةٍ ... فجازوا بتركِ الذم إن لم يكن حمد
شيم الليالي أن تشكك ناقتي ... صدري بها أفضى أم البيداء
قال الشيخ رحمه الله: يقول ناقتي هذه تشككها الليالي، فلا تدري أصدري أفضى أم البيداء التي هي سائرة فيها وأراد ألف الاستفهام فحذفها وذلك كثير موجود، وقد حملوا على ذلك قول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلام من الرباب خيالا
كأنه قال: أكذبتك عينك وقوله) أفضى (يحمل أن يكون اسماً وفعلا. فإذا كان اسما فهو على معنى التفضيل كأنه قال: أصدري أشد سعة أم البيداء، وإذا كان فعلا فهو من أفضى إلى الشيء يفضي كأنه قال صدري يفضي بهذه الناقة. أي يصيرها في الفضاء أم البيداء.
فتبينت تسئد مسئداً في نيها ... إسادها في المهمهِ الإنضاء
قال ابن جني: الاساد إغذاذ السير، والني الشحم، يقال نوت الناقة تنوي نوايةً. والمهمه: الأرض الواسعة. والأنضاء مصدر أنضاه إذا هزله وأذابه والمعنى. فتبيت هذه الناقة تسرع السير في شحمها. أي يهزلها الانضاء لشدة السير. كما تسرع هي في قطع الأرض. أي كما قطعت الأرض قطعت الأرض شحمها، على احتذاء مثال هذا. هكذا حصلته عنه وقت قراءتي عليه شعره.
ونصب) مسئداً (على الحال منها، والإنضاء مرفوع بمسئد والعائد عليها من هذه الحال الهاء في نيها. وإسآدها منصوب على المصدر، والناصب له) مسئداً (لا يسئد وتقديره، فتبيت هذه الناقة تسئد مسئداً الإنضاء في نيها إسآداً مثل إسآدها هي في المهمه. ونظير هذا: بيت هند: تصلي مصلياً عمرو في دارها صلاتها في المسجد أي تبيت تصلي على هذه الحال. فتسئد فعل الإنضاء، وجرى حالاً على الناقة لما تعلق به من ضميرها الذي في نيها كما تقول:) مررت بهند واقفاً عندها عمرو (.
بَيني وَبَينَ أبي عليٍّ مِثْلُهُ ... شُمُّ الجبالِ وَمِلْئُهُنَّ رَجاءُ
قال ابن جني: نصب مثلهن لأنه كان في الأصل في وصف النكرة التي هي رجاء أراد ورجاء مثلهن. ونعت النكرة المرفوعة إذا قدم عليها نصب على الحال كما تقول فيها قائماً رجل ومثله: لِعَزَّةَ موحِشاً طَلَلُ ومعنى البيت: بيني وبين الممدوح جبال مثله في العظم، وهو في نظائر اللفظ تعظيم للممدوح لأنه شبهه بالجبال، يريد حلمه ورزانته كقول مسلم:
كَبيرُهُم لا تَقومُ الرَّاسِياتُ لَهُ ... حِلْماً وَطِفْلُهُمْ في هَدي مُكْتَهِلُ
أي: بيننا هذه الجبال، ورجاء مني له مثلها تعظيماً لرجائه وتأكيداً له. وقال الأحسائي: شم الجبال مثله في الحلم والرفعة والشدة.
ورفع مثله على الابتداء والخبر " بيني وبين أبي علي " وشم الجبال بدل من مثله، ولا يجوز نصب مثلهن ولا مثله على الحال، لأن مثله ليس صفة لشم الجبال فينصب إذا تقدم. لأن الجماعة لا توصف بالواحد، ومثلهن عطف على الجملة، والتقدير ورجاء مثلهن، فقدم حرف العطف وهو الرجاء، ونيته تقديم رجاء وتأخير مثلهن. ومثله قولهم) إن في الدار لزيداً (وحكم اللازم أن تكون في الخبر مؤخرة، وليس للاسم فيها حظ، فلما قدم الخبر بقيت اللام في موضعها في التأخير، ووقع الاسم بعدها، والنية تقديمه، فاللازم في الحقيقة للخبر لا للاسم. وكذلك واو العطف في البيت لما كانت للرجاء وتقدمت الصفة والواو قبلها، لم يعتد بتقديمها، وأجريت في الاتباع مجراها متأخرة لوقوع الواو، مقتضية لتقديم الموصوف، لأن حرف العطف لا يكون في الصفة، إنما هو للموصوف، والصفة تابعة ولولا الواو لنصبت الصفة المتقدمة على النكرة، كقوله: لعزة موحشاً طلله.