فيقال أن سيف الدولة أحرق كثيراً من ديار الروم، وأعاد الليل صبحاً بالنيران فكأنه قتل الليل، ونال ثأر العشاق منه، ولو قال قائل إنه عنى بالفجر في البيت الذي مضى النار شبهها بالفجر، كان ذلك صواباً ليتفق التفسيران، والتفسير الأول فائدتي من الشيخ أبي العلاء.
على طُرُقٍ فيها على الطُّرْقِ رِفْعَةُ ... وفي ذِكْرها عندَ الأنيسِ خُمُولُ
قال الشيخ رحمه الله: يريد أنها طرق في جبال فهي مرتفعة إلا أنها مع رفعتها خاملة عند الأنيس أي أنهم لا يسلكونها.
وأضْعَفْنَ ما كُلَّفْنَهُ مِن قُباقِبٍ ... فأضْحَى كأنَّ المَاءَ فيهِ عَليلُ
قال ابن جني: سألته عن معنى هذا البيت فقال: إن الخيل لما عبرت قباقباً، وهو نهر جار كادت تسكر ماءه لكثرة قوائمها، فأضعفت جريه أي جعلته ضعيفاً.
وقال الشيخ رحمه الله:) أضعفن (يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون من الضعف. ويكون المعنى أن هذه الخيل أضعفت هذا الماء وكدرته، فكأنه عليل أي به علة.
والآخر: أن يكون من ضعف الشيء إذا قلت أضعفت له العطية إذا زدتها ضعفها، فيكون عليل هنا فعيلا في معنى مفعول، من قولك عللت الشرب إذا كررته أي جاءت هذه الخيل فعبرت هذا الماء وكأنها سيل من كثريها سرعتها فصار النهر مثله ويقوي ذلك قوله:
وَرُعْنَ بِنا قَلْبَ الفُراتِ كأنَّما ... تَخِرُّ عَلَيهِ بالرّجالِ سُيُولُ
إذَا لم تكُنْ لَّليْثِ إلاَّ فَرِيسَةً ... غَذَاهُ ولم يَنْفَعْكَ أَّنَّكَ فِيلُ
قال الشيخ رحمه الله:) غذاه (أي له، والهاء عائدة إلى الليث) وأنك فيل (فاعل غذاه، في البيت تقديم وتأخير كأنه قال: غذاه أنك فيل ولم ينفعك عظم خلقك.
ومن التي أولها: دُرُوعُ لمَلْكِ الرُّومِ هَذي الرَّشائيُ
وأكَبرَ مِنْهُ هِمَّهً بَعَثَتْ به ... إليكَ العِدَى واستَنظَرتْهُ الجحافِلُ
قال الشيخ رحمه الله: الواو في قوله) وأكبر (في معنى رب، ورقع) أكبر (على الأخبار أحسن ويكون مبتدأ، قوله) بعثت به وما بعده (خبر عنه) واستنظرته (في معنى انتظرته. وقال ابن فورجة: سألني عن هذا البيت بعض أهل الأدب فقلت له، وكأن هاجساً هجس لي في الحال:) أكبر (هنا من باب أفعل من كذا، وليس بفعل رباعي والهاء في) منه (راجعة إلى نفسه كأنه لو تمكن لقال: وأكبر من جثته أو جسمه همة، فاستغرب هذا فأخذ يمانع، فقلت: ألست تقول: زيد قاعداً أحسن منه قائماً (والضمير في منه راجع إلى نفسه. فقال: نعم. فقلت: ما يمنعك من أن يكون) وأكبر منه همة (الهاء في منه راجعة إلى نفسه، يريد ورب رجل أعظم من جسمه همة ففزع إلى كتاب الفسر.
وقد ذكر أبو الفتح: أن أكبر فعل فقال: أي أكبر العدى همته التي بعثت به إليك أي استعظموها، وسألته الجحافل أن ينظرها بشغله سيف الدولة عنهم وكلا التفسيرين محتمل جيد، ويحتمل معنى ثالثاً: وهو أن تكون الهاء في) منه (ضمير الرسول وقد تقدمه:
وأنَّى اهْتدىَ هَذا الرَّسُول بأرْضه ... وما سَكنتْ مُذْ سِرتُ فيها القَساطِلُ
يريد ورب أكبر من هذا الرسول همة بعثت به إليك الروم فأقبل من أصحابه وهو مرسل، وعاد إلى أصحابه وهو عاذل يقول: رب رسول أجل من هذا الرسول قدراً جاءك فاستعظم شأنك فعاد إليهم، وهو يعزلهم في عدوانهم لك، ويجل قدرك في عيونهم أن تعادى، وهذا المعنى أحب إلي من الوجهين المتقدمين، لأن المعنى الذي أورده أبو الفتح كالمنقطع، ألا تراه قال: استعظم العدى همته التي بعثت به، فكان يجب أن يتبع هذا الكلام ما يشبهه، فيقول: واستعظمته الجحافل، فلما قال) استنظرته (كان منقطعاً عن أكبر، وكان كلاماً مستأنفاً، ومعنى مبتدأ اللهم إلا أن يقول: هو متعلق بقوله: بعثت به، يريد به واستنظرته، فحينئذ يكون مستغنياً عن قوله الجحافل، ألا تراه لو سكت عن الجحافل لكفى وأغنى وأدى المعنى الذي أراد، على أنه إن قال: أتى به للقافية سلمنا له وليس المطرد كالمتمحل.
ومَا لَوْنُهُ مَّما تُحَصَلُ مُقْلةُ ... ولا حَدُّهُ مِمَّا تَجُسُّ الأنامِلُ
قال الشيخ رحمه الله: يريد أن لون هذا السيف ليس كلون السيف، لأن السيوف تعرف ألوانها، ولون هذا الممدوح لا يحصل، لأنه من هيبته لا يستطاع أن ينظر إليه كما قال في الأخرى.