يا مُسْقِماً جِسْمِي بأوَّلِ نَظْرَةٍ ... في النَّظْرَةِ الأُخْرىَ إليْكَ شَفائِي
إلا أن هذا البيت لا مجاز فيه، وبيت أبي الطيب فيه مجاز
فلا يَتَّهِمْنِي الكاشِحُونَ فإنَّنِي ... رَعَيتُ الرَّدَى حتى حَلتْ لي علاقِمُهْ
قال ابن جني: سألته وقت القراءة فقلت له: ما وجه التهمة في هذا الموضع فقال: أن يظنوا بي جزعا، ونحو هذا قول أوس بن حجر:
لا تُحْزِنينِي بالفرَاقِ فإنّني ... لا تَسْتهِلُّ مِنَ الفِرَاقِ شُئُونِي
أي قد مرنت عليه، ومر بي أشياء كثيرة منه.
وقال الشيخ رحمه الله: لا تظنوني قد سلوت، وإنما أنا صاحب صبر قد جربت الأشياء، ودريت بالمرارة حتى حلا العلقم بفمي، ومعنى البيت أنه يصف نفسه بالوفاء، وأنه لم يسل عن أحبابه، ولكنه حسن الصبر.
وتكْمِلَةُ العَيْشِ الصِبّا وَعَقيبُه ... وغَائِبُ لَوْنِ العارِضَيْنِ وقَادِمُهْ
قال الشيخ أبو العلاء: جعل العيش أربعة أقسام: الصبا وما يعقبه من الزمان الذي هو قريب منه، وغائب لون العارضين يجوز أن يعني سوادهما مرة وبياضهما أخرى، وكذلك القادم من لونهما يحتمل وجهين: أن الغائب والقادم كلاهما غاب، وكلاهما قدم، الآ ترى أن لون الشعر ينبت في وجه الأمرد يكون غائبا عنه دهرا، ثم يقدم بعد ذلك، والبياض جار مجرى السواد لأن الشيب يقدم بعد غيبة.
وقال ابن فورجة، قال ابن جني: إن أبا الطيب قال عنيت بعقيبه الشيب والهرم، لأنه يتلوه، والأولى عندي أن يعني الشباب، ألا ترى أنه قال بعده) وغائب لون العارضين وقادمه (. يعني كمال العيش بالصبا، ثم الشباب وسواد الشعر فيه، ثم الشيب، وهذا المعنى من قول ابن الرومي وهو أجود منه:
سُلِبْتُ سَوادَ العارِضَينْ وقبْلَهُ ... بَياضَهما المحْمودَ إذْ أنا أمْرَدُ
وأجود منهما قول الشيخ أبي العلاء وإن كان قد غير المعنى بعض التغيير:
وعيشَتي الشّبَابُ وليس منها ... صِبايّ ولا ذَوَائِبيَ الهِجانُ
وكالنَّارِ الحَيَاةُ فمِن رَمَادٍ ... أواخِرُها وأوَلُها دُخَانُ
عَلى عاتِق المُلْكِ الأَغر نجادُهُ ... وفي يَدِ جَبَّارِ السمَواتِ قَائِمُهْ
قال الشيخ: من رواها الملك بضم الميم جعل الملك متقلدا لسيف الدولة يعني ملك بني العباس، وإن فتحت الميم فالمراد الخليفة.
ومن التي أولها: أيْنَ أرْمَعْتَ أيهُّذَا الهُمامُ قوله:
نَحْنُ مَن ضايقَ الزَّمانُ له في ... كَ وخانَتْهُ قُرْبَكَ الأيَّامُ
قال ابن جني: قال لي أردت) ضايقه (فزدت اللام، ولهذا الذي قال نظائر منها قوله عز اسمه: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " معناه والله اعلم إن كنتم تعبرون الرؤيا.
وقال الآخر:
أَلاِيدُ لأنْسَى ذِكَرَها فكأنما ... تُمثلُ لي لَيلى بِكُلِ سبيل
أي أريد أن أنسى.
وقال الشيخ أبو العلاء: قوله تعالى " للرؤيا تعبرون " حسن في تقديم اللام لأنها تقدمت على المفعول، وإذا قلت لزيد ضربت، فهو أحسن من قولك ضربت لزيد، أنك إذا قلت ضربت، فقد ذكرت الفعل وهو متعد، فكان دخول اللام مكروها، وإذا قدمتها فهي دليل على أن الفعل متصل بها، لأنه لم يعمل شيئا ولا استحق العمل، إذ لم يذكر، وإذا بدئ به فقد استحق العمل ونصب) قربك (لأنه مفعول ثان، ولا يجوز نصبه على الظرف، لأنه يصير دما للممدوح، وٌقرارا بأن الزمان خانهم في حال اقترابهم منه، وإنما) خان (هاهنا مثلها في قول الأعشى:
ومَا إنْ أرَى الدَّهَر في صَرْفِهِ ... يُغَادِرُ مِن شَارخٍ أو يفَنْ
أزَالَ أُذَيْنَةَ عَنْ مُلْكِهِ ... وأخْرَجَ مَنْ حصْنِهِ ذَا يَزَنْ
وخَانَ النَّعِيمُ أبَا مَالِكٍ ... وأيُّ اِمرئ صَالحٍ لم يُخَنْ
كُلُّ عَيْشٍ ما لم تُطِبْهُ حمِامٌ ... كُلُّ شَمْسٍ ما لم تكُنها ظَلامُ
قال الشيخ: يقيمون الهاء مقام خبر كان، وهو بإياها أشبه، وقد قال أبو الأسود الدؤلي:
دَعِ الخَمْرَ يَشْرَبْها الغُوَاةُ فإنَّنِي ... رأيْتُ أخَاها مُغْنياً بمكانِها
فَإلاَّ يَكُنْها أوْ تكُنْهُ فإنَّهُ ... أخُوها غَذَتهُ أمُّهُ بِلبِانَها
وقالوا تكونها في معنى يكون فيها قال الشاعر: