٤٢٥ - وَحَدَّثَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَنْصُورٍ التُّوزِيُّ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ قَالَ: دَخَلْتُ دَارَ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَفِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْجَعْفَرِيُّ وَحَوْلَهُ قَوْمٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي ⦗١٥٠⦘ الْقُرْآنِ، فَخِفْتُ أَنْ يَعْلُقَ بِقُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: «يَكُونُ مَخْلُوقٌ بِلَا قَوْلٍ؟» قَالَ: لَا قَالَ: قُلْتُ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي خُلِقَ بِهِ الْخَلْقُ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ: فَقَالَ: «مَا أَرَى الَّذِي تَكَلَّمَ فِي هَذَا إِلَّا شَيْطَانًا» قَالَ الشَّيْخُ: فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُلْحِدَةِ أَلْقَتْ إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْخُصُومَةَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَزَاغَتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، فَقُلْ لِلْجَهْمِيِّ الضَّالِّ: هَذَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، سَمَّاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قُرْآنًا وَفُرْقَانًا وَنُورًا وَهَدًى وَوَحْيًا وَتِبْيَانًا وَذِكْرًا وَكِتَابًا وَكَلَامًا وَأَمْرًا وَتَنْزِيلًا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُعَلِّمُنَا أَنَّهُ كَلَامُهُ مِنْهُ وَمُتَّصِلٌ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: ٢]. وَقَالَ: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية: ١] فَلَكَ فِي أَسْمَائِهِ الَّتِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِهَا كِفَايَةٌ، فَقَدْ جَهِلْتَ وَغَلَوْتَ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَافْتَرَيْتَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ حِينَ زَعَمْتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَزَعَمْتَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّوْحِيدُ، وَأنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعِبَادِ غَيْرَهُ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِمَقَالَتِكَ وَيَتَّبِعْكَ عَلَى إِلْحَادِكَ وَضَلَالَتِكَ فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ، ⦗١٥١⦘ تُكَفِّرُهُ وَتَسْتَحِلُّ دَمَهُ، فَكُلُّ مَا قُلْتَهُ وَابْتَدَعْتَهُ أَيُّهَا الْجَهْمِيُّ، فَقَدْ أَكْذَبَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ، وَرَدَّهُ عَلَيْكَ هُوَ وَرَسُولُهُ وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا مِنْ عِبَادِ غِيَرَةٍ، وَإِنَّمَا الْتَمَسْنَا دَعْوَاكَ هَذِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ نَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا ادَّعَيْتَهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونُ}، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْ تَقُولُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: ١٣١]، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْ تَقُولُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ. . .} [الحج: ٧٧] إِلَى قَوْلِهِ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: ٧٨]، وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْ تَقُولُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: ١٣]⦗١٥٢⦘ وَقَالَ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: ٣٠] وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: ١] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقِيمَةِ} [البينة: ٥] وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: ٨٩] وَقَالَ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٣٨] وَقَالَ {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: ١٢] وَقَالَ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: ١١٥] فَمِثْلُ هَذَا وَشِبْهُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، قَدْ قَرَأْنَاهُ وَفَهِمْنَاهُ، فَلَمْ نَجِدْ لِبِدْعَتِكَ هَذِهِ فِيهِ ذِكْرًا وَلَا أَثَرًا، وَلَا دَعَا اللَّهُ عِبَادَهُ وَلَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا زَعَمْتَ أَنَّهُ تَوْحِيدُهُ وَدِينُهُ ⦗١٥٣⦘ أَفَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَغْفَلَ هَذَا أَمْ نَسِيَهُ حَتَّى ذَكَرْتَهُ أَنْتَ وَأَنْبَهْتَهُ عَلَيْهِ؟ فَقَدْ أَكْذَبَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: ٦٤]، وَقَالَ {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٣٨] أَمْ عَسَاكَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ فِي دِينِهِ، وَكَتَمَ مَا أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ؟ فَإِنَّ فِي جُرْأَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ مَا قَدْ قُلْتَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَكُلُّ ذَلِكَ فَقَدْ أَكْذَبَكَ اللَّهُ فِيهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. . .} [الأعراف: ١٥٧] إِلَى قَوْلِهِ: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: ١٥٨]. وَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١٠٧]. وَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ ⦗١٥٤⦘ رِسَالَتَهُ} [المائدة: ٦٧]. وَقَالَ: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: ٥٤]. وَقَالَ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: ٩٤] وَقَالَتْ عَائِشَةُ: " مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: ٦٧] " الْآيَةَ ثُمَّ الْتَمَسْنَا هَذِهِ الضَّلَالَةَ الَّتِي اخْتَرَعْتَهَا وَزَعَمْتَ أَنَّهَا الشَّرِيعَةُ الْوَاجِبَةُ وَالدِّينُ الْقَيِّمُ وَالتَّوْحِيدُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْعِبَادِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقُولُوا: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فِي سُنَّةِ الْمُصْطَفَى، وَمَا دَعَا إِلَيْهِ أُمَّتَهُ وَقَاتَلَ مَنْ خَالَفَهُ عَلَيْهِ، فَمَا وَجَدْنَا لِذَلِكَ أَثَرًا وَلَا إمَارَةً وَلَا دَلَالَةً. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " فَزَعَمْتَ أَيُّهَا الْجَهْمِيُّ أَنَّهَا سِتٌّ بِضَلَالَتِكَ هَذِهِ ⦗١٥٥⦘ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، حُرِّمَتْ عَلَيَّ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " وَقَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ حِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَقَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ " وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥]⦗١٥٦⦘ فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ يُكَذِّبُكَ أَيُّهَا الْجَهْمِيُّ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَبِيلُهُمْ تُخَالِفُكَ، وَتَدُلُّ عَلَى ضَلَالَتِكَ، وَعَلَى إِبْطَالِ مَا ادَّعَيْتَهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَكَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالدِّينُ، الذي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ، فَقَدْ بَطَلَ الْآنَ مَا ادَّعَيْتَهَ مِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَبَانَ كَذِبُكَ وَبُهْتَانُكَ لِلْعُقَلَاءِ فَأَخْبَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ خَلْقِ مَا خَلَقَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّا نَحْنُ قَدْ أَوْجَدْنَاكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْهُ، وَفِيهِ صِفَاتُهُ وَأَسْمَاءُهُ، وَأَنَّهُ عِلْمٌ مِنْ عِلْمِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَا مِنْ عِلْمِهِ، وَلَا مِنْ قُدْرَتِهِ، وَلَا مِنْ عَظَمَتِهِ، وَلَا مِنْ عِزَّتِهِ مَخْلُوقَةً وَرَأَيْنَاكَ أَيُّهَا الْجَهْمِيُّ تَزْعُمُ أَنَّكَ تَنْفِي التَّشْبِيهَ عَنِ اللَّهِ بِقَوْلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَرَأَيْنَاكَ شَبَّهْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِأَضْعَفَ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ، وَأَسْمَاءَهُمْ مَخْلُوقَةٌ، وَعِلْمَ النَّاسِ مَخْلُوقٌ، وَقُدْرَتَهُمْ وَعِزَّتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ، فَأَنْتَ بِالتَّشْبِيهِ أَحَقُّ وَأَخْلَقُ، وَأَنْتَ فَلَيْسَ تَجِدُ مَا قُلْتَهُ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَا مَأْثُورًا عَنْ صَحَابَتِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحِينَئِذٍ لَجَأَ الْجَهْمِيُّ إِلَى آيَاتٍ مِنَ الْمُتَشَابِهِ جَهِلَ عِلْمَهَا، فَقَالَ: قُلْتَ: ⦗١٥٧⦘ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: ٣]، وَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: ٥٢]، وَزَعَمَ أَنَّ كُلَّ مَجْعُولٍ مَخْلُوقٌ، فَنَزَعَ بِآيَةٍ مِنَ الْمُتَشَابِهِ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُلْحِدَ فِي تَنْزِيلِهَا، وَيَبْتَغِيَ الْفِتْنَةَ فِي تَأْوِيلِهَا فَقُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ مَنَعَكَ أَيُّهَا الْجَهْمِيُّ الْفَهْمَ فِي الْقُرْآنِ حِينَ جَعَلْتَ كُلَّ مَجْعُولٍ مَخْلُوقًا، وَأَنَّ كُلَّ جَعَلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ هُوَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَمِنْ هَاهُنَا بُلِيتَ بِهَذِهِ الضَّلَالَةِ الْقَبِيحَةِ، حِينَ تَأَوَّلْتَ كِتَابَ اللَّهِ بِجَهْلِكَ وَهَوَى نَفْسِكَ وَمَا زَيَّنَهُ لَكَ شَيْطَانُكَ، وَأَلْقَاهُ عَلَى لِسَانِكَ إِخْوَانُكَ، وَذَلِكَ أَنَّا نَجِدُ الْحَرْفَ الْوَاحِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعَانِيهِ مُخْتَلِفَةٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، تَرَكْنَا ذِكْرَهَا لِكَثْرَتِهَا وقَصَدْنَا لِذِكْرِ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجَجْتَ بِهَا. فَ {جَعَلَ} [الأنعام: ١] فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ، فجعل من الْمَخْلُوقِينَ، عَلَى مَعْنَى وَصَفَ مِنْ أَوْصَافِهِمْ، وَقَسَمَ مِنْ أَقْسَامِهِمْ، وَ (جَعَلَ) أَيْضًا عَلَى مَعْنَى فَعَلَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ لَا يَكُونُ خَلْقًا وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْخَلْقِ، فَتَفَهَّمُوا الْآنَ ذَلِكَ وَاعْقِلُوهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: ٩١]، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَاهُنَا بِمَعْنَى: وَصَفُوهُ بِغَيْرِ وَصْفِهِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ حِينَ عَضُوهُ وَمَيَّزُوهُ فَقَالُوا: ⦗١٥٨⦘ إِنَّهُ شِعْرٌ، وَإِنَّهُ سِحْرٌ، وَإِنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} [الأنعام: ١٠٠]، وَقَالَ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: ١٩]، وَقَالَ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: ٦٢]، وَقَالَ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتَ سُبْحَانَهُ} [النحل: ٥٧]، وَقَالَ: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٤] لَا يَعْنِي ذَلِكَ وَلَا تَخْلُقُوا، وَقَالَ: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصلت: ٩]، وَقَالَ: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} [النحل: ٥٦]، وَقَالَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: ٣٣]⦗١٥٩⦘ فَهَذَا كُلُّهُ (جَعَلَ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: (خَلَقَ)، وَ (جَعَلَ) مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى فَعَلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: ١٩] لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: يَخْلُقُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: ٩٦]، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: خَلَقَهُ نَارًا، وَقَالَ: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء: ٥٨]، أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُمْ جُذَاذًا؟ وَ (جَعَلَ) فِي مَعْنَى (خَلَقَ) فِي مَعْنَى مَا كَانَ مِنَ الْخَلْقِ مَوْجُودًا مَحْسُوسًا، فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: ١]. فَجَعَلَ هَاهُنَا فِي مَعْنَى خَلَقَ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ يَرَاهُمَا النَّاسُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [النحل: ٧٨] وَهُمَا مَوْجُودَانِ فِي بَنِي آدَمَ وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: ١٢]، يَعْنِي: خُلِقَتَا، وَهُمَا مَوْجُودَانِ ⦗١٦٠⦘ مَعْرُوفَانِ بِإِقْبَالِهِمَا وَإِدْبَارِهِمَا، فَهَلْ يُعْرَفُ الْقُرْآنُ بِإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ؟ وَقَالَ: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: ١٦] مَعْنَاهُ خَلَقَ، وَالشَّمْسُ نُورٌ وَحَرٌ وَهِيَ تُرَى، فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ؟، وَقَالَ {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر: ١٢]، يَعْنِي: خَلَقْتُ، وَالْمَالُ مَوْجُودٌ يُوزَنُ وَيُعَدُّ وَيُحْصَى وَيُعْرَفُ، فَهَلْ يُوزَنُ الْقُرْآنُ؟، وَقَالَ: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: ١٩] وَهِيَ مَوْجُودَةٌ، يُمْشَى عَلَيْهَا وَتُحْرَثُ، فَهَلْ يُمْكِنُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى لَفظِ (جَعَلَ) وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَلْقِ، وَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَى الْجَعْلِ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْخَلْقِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: ١٠٣] لَا يَعْنِي: مَا خَلَقَ ⦗١٦١⦘ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ، لِأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرِ النَّاسَ بِاتِّخَاذِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، فَهَذَا لَفْظُ (جَعَلَ) عَلَى غَيْرِ مَعْنَى (خَلَقَ)، وَقَالَ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: ١٢٤] لَا يَعْنِي: خَالِقُكَ، لِأَنَّ خَلْقَهُ قَدْ سَبَقَ إِمَامَتَهُ، وَقَالَ لِأُمِّ مُوسَى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: ٧] لَا يَعْنِي وَخَالِقُوهُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَخْلُوقًا، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُرْسَلًا بَعْدَ خَلْقِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمَنَّا} [إبراهيم: ٣٥] لَا يَعْنِي: رَبِّ اخْلُقْ هَذَا الْبَلَدَ، لِأَنَّ الْبَلَدَ قَدْ كَانَ مَخْلُوقًا، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ {هَذَا الْبَلَدَ} [إبراهيم: ٣٥]؟ وَقَالَ: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: ١٥]، لَا يُرِيدُ: حَتَّى خَلَقْنَاهُمْ حَصِيدًا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: ٤٠] لَا يَعْنِي: رَبِّ اخْلُقْنِي، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: ١٢٨]، وَلَمْ يُرِيدَا: وَاخْلُقْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ لِأَنَّ خَلْقَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ قَوْلِهِمَا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ فِي الْقُرْآنِ ⦗١٦٢⦘ كَثِيرٌ، مِمَّا لَفْظُهُ (جَعَلَ) عَلَى غَيْرِ مَعْنَى (خَلَقَ)، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: ٣] إِنَّمَا جَعَلَهُ عَرَبِيًّا لِيُفْهَمَ وَيُبَيَّنَ لِلَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: ٩٧]؟ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: ٤٤]، يَقُولُ: أَعَرَبِيٌّ مُحَمَّدٌ وَعْجَمِيٌّ كَلَامُهُ بِالْقُرْآنِ؟ فَجَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. كَذَلِكَ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: ١٠٣]؟ وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: ٣]، وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: ٢]، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} [الشورى: ٥٢]، فَإِنَّمَا يَعْنِي: أَنْزَلْنَاهُ نُورًا، تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: ٨]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا ⦗١٦٣⦘ مُبِينًا} [النساء: ١٧٤]، وَقَالَ: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: ١٥٧]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهَدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: ٩١]، فَقَدْ بُيِّنَ لِمَنْ عَقَلَ وَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ أَنَّ (جَعَلَ) فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى (خَلَقَ)، وَ (جَعَلَ) أَيْضًا بِمَعْنَى (خَلَقَ)، وَأَنَّ قَوْلَهُ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: ٣] هُوَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى (خَلَقَ). فَبِأَيِّ حُجَّةٍ وفِي أَيِّ لُغَةٍ زَعَمَ الْجَهْمِيُّ أَنَّ كُلَّ (جَعَلَ) عَلَى مَعْنَى (خَلَقَ)؟ أَلَمْ يَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِيْنَ} [القصص: ٥]؟ أَفَتَرَى الْجَهْمِيَّ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَهُ {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: ٥] إِنَّمَا يُرِيدُ: أَنْ نَخْلُقَهُمْ أَئِمَّةً؟ أَفَتُرَاهُ يَخْلُقُهُمْ خَلْقًا آخَرَ بَعْدَ خَلْقِهِمُ الْأَوَّلِ؟ فَهَلْ يَكُونُ مَعْنَى (الْجَعْلِ) هَاهُنَا مَعْنَى (الْخَلْقِ)؟ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: ١٨] لَا يَعْنِي: ⦗١٦٤⦘ ثُمَّ خَلَقْنَا لَهُ جَهَنَّمَ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ قَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُهَا، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهَا تُخْلَقُ حِينَ يَفْعَلُ الْعَبْدُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ جُعِلَتْ دَارَهُ وَمَسْكَنَهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ خَلْقُهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: ٣٧]، وَقَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: ٢١]، وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: ٢٨] وَقَالَ: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: ١٢٤]، يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَفَيَظُنُّ الْجَهْمِيُّ الْمُلْحِدُ أَنَّمَا أَرَادَ: إِنَّمَا خُلِقَ السَّبْتُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَدْ عَلِمَ الْعُقَلَاءُ أَنَّ السَّبْتَ مَخْلُوقٌ فِي مُبْتَدَأِ الْخَلْقِ قَبْلَ كَوْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَبْلَ نُوحٍ، وَقَبْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا جُعِلَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَسْبِتُوا السَّبْتَ خَاصَّةً، فَهَذَا عَلَى غَيْرِ مَعْنَى (خَلَقَ)، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّ مِنَ الصُّمِّ الْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مِنَ الَّذِينَ {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ٧٥]، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ ⦗١٦٥⦘ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ١٩٨]، فَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَأَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا لِتَفْقَهَ الْعَرَبُ، وَلِتُتَّخَذَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: ٣] وَلَمْ يُرِدْ عَرَبِيًّا فِي أَصْلِهِ وَلَا نَسَبِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَرَبِيًّا فِي قِرَاءَتِهِ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْبَيَانِ مِنْ تَفْرِيقِ اللَّهِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: ١]، أَلَا تَرَاهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، فَقَالَ: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: ٢]، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى: لَقَالَ: «خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَالْقُرْآنَ»، وَلَكِنَّهُ تَكَلَّمَ بِالصِّدْقِ لِيُفْهَمَ وَلِيُفَصَّلَ كَمَا فَصَلَّهُ. فَخَالَفَ ذَلِكَ الْجَهْمِيُّ وَكَفَرَ بِهِ، وَقَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَجِدْهُ فِي كِتَابٍ أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا رُوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بَلْ وُجِدَ وَرُوِيَ خِلَافُ قَوْلِ الْجَهْمِيِّ، حَيْثُ عَابَ اللَّهُ أَقْوَامًا بِمِثْلِ فِعْلِ الْجَهْمِيِّ فِي هَذَا، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ}، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُرُوهُ لِمَنْ عَبَدُوا خَلْقًا فِي الْأَرْضِ وَلَا شِرْكَ لَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ قَالَ: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الأحقاف: ٤] يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، أَيْ: ائْتُونِي ⦗١٦٦⦘ بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا تَجِدُونَ فِيهِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: ٤]، أَيْ: رِوَايَةٍ عَنْ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ٢٣] فَسَلَكَ الْجَهْمِيُّ فِي مَذْهَبِهِ طَرِيقَ أُولَئِكَ، وَقَالَ فِي اللَّهِ وَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ الْبُهْتَانَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ، وَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَتَعَدَّى مَا أَخَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى خَلْقِهِ حِينَ قَالَ: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}، وَقَالَ: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [الأنعام: ٩٣] وَمِنْ أَبْيَنِ الْبَيَانِ وَأَوْضَحِ الْبُرْهَانِ مِنْ تَفْرِيقِ اللَّهِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْقُرْآنِ قَوْلُهُ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: ٥٤]، فَتَفَهَّمُوا هَذَا الْمَعْنَى، هَلْ تَشُكُّونَ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْخَلْقُ كُلُّهُ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ} [الأعراف: ٥٤] أَرَادَ أَنَّ لَهُ بَعْضَ الْخَلْقِ؟ بَلْ قَدْ دَخَلَ الْخَلْقُ كُلُّهُ فِي الْخَلْقِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ أَيْضًا غَيْرَ الْخَلْقِ لَيْسَ هُوَ خَلْقًا، لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخَلْقِ وَهُوَ (الْأَمْرُ)، فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ خَارِجٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ وَكَلَامُهُ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ فَهَمَ عَنِ اللَّهِ وَعَقَلَ أَمْرَ اللَّهِ أَنَّكَ تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذِكْرَ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ إِذَا كَانَا فِي مَوْضِعٍ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْوَاوِ، وَإِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ غَيْرَ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْوَاوِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ⦗١٦٧⦘ وَأَسْمَاؤُهُ مُخْتَلِفَةٌ وَمَعْنَاهُ مُتَّفِقٌ، فَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْوَاوِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: ٧٨]، فَلَمْ يَفْصِلْ بِالْوَاوِ حِينَ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ شَيْئًا وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ؟ وَقَالَ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: ٥]، فَلَمَّا كَانَ هَذَا كُلُّهُ نَعْتَ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمْ يَفْصِلْ بَعْضَهُ عَنْ بَعْضٍ بِالْوَاوِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَبْكَارًا} [التحريم: ٥]، فَلَمَّا كَانَ الْأَبْكَارُ غَيْرَ الثَّيِّبَاتِ فَصَلَ بِالْوَاوِ، لِأَنَّ الْأَبْكَارَ وَالثَّيِّبَاتِ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ وَقَالَ أَيْضًا فِيمَا هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِأَسْمَاءِ مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَفْصِلْهُ بِالْوَاوِ، وَقَالَ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: ٢٣]، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: ٢٤]، فَلَمَّا كَانَ هَذَا كُلُّهُ شَيْئًا وَاحِدًا لَمْ يَفْصِلْ بِالْوَاوِ، وَكَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا وَاوٌ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ غَيْرَ الثَّانِي، وَالثَّانِي غَيْرَ الثَّالِثِ، وَقَالَ فِيمَا هُوَ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ. . .} [الأحزاب: ٣٥] إِلَى ⦗١٦٨⦘ آخِرِ الْآيَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ الْمُسْلِمَاتِ، فَصَلَ بِالْوَاوِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْلِمَاتِ، لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ وَقَالَ: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام: ١٦٢]، فَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ غَيْرَ النُّسُكِ، وَالْمَحْيَا غَيْرَ الْمَمَاتِ، فَصَلَ بِالْوَاوِ. وَقَالَ: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: ١٩]، فَفَصَلَ هَذَا كُلَّهُ بِالْوَاوِ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَمَعَانِيهِ. وَقَالَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: ٢٧]، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ غَيْرَ صَاحِبِهِ، فَصَلَ بِالْوَاوِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْحَدَائِقُ غُلْبًا شَيْئًا وَاحِدًا، أَسْقَطَ بَيْنَهُمَا الْوَاوَ، وَقَالَ أَيْضًا: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار خَلِفَةً} [الفرقان: ٦٢]، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ غَيْرَ النَّهَارِ، فَصَلَ بِالْوَاوِ، كَمَا قَالَ {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [إبراهيم: ٣٣]، فَلَمَّا كَانَ الشَّمْسُ غَيْرَ الْقَمَرِ، فَصَلَ بِالْوَاوِ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَعَقَلَهُ وَأَرَادَ اللَّهُ تَوْفِيقَهُ وَهِدَايَتَهُ، ⦗١٦٩⦘ فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ غَيْرَ الْخَلْقِ، فَصَلَ بِالْوَاوِ، فَقَالَ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ} [الأعراف: ٥٤]، فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ وَكَلَامُهُ، وَالْخَلْقُ خَلْقٌ، وَبِالْأَمْرِ خَلَقَ الْخَلْقَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِمَا شَاءَ وَخَلَقَ بِمَا شَاءَ، فَزَعَمَ الْجَهْمِيُّ أَنَّ الْأَمْرَ خَلْقٌ، وَالْخَلْقَ خَلْقٌ، فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: ٥٤] إِنَّمَا هُوَ الْإِلَهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ، فَجَمَعَ الْجَهْمِيُّ بَيْنَ مَا فَصَلَهُ اللَّهُ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيُّ، لَكَانَ قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِخَلْقِ رَبِّكَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: ٦٤] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: ٥]، فَيُسَمِّي اللَّهُ الْقُرْآنَ أَمْرَهُ، وَفَصَلَ بَيْنَ أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ، فَتَفَهَّمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} [سبأ: ١٢]، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ خَلْقِنَا. وَقَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: ٢٥]، وَلَمْ يَقُلْ بِخَلْقِهِ، لِأَنَّهَا لَو قَامَتْ بِخَلْقِهِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ مُعْجِزَاتِ قُدْرَتِهِ، وَلَكِنْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أَنْ يَقُومَ الْمَخْلُوقُ بِالْخَالِقِ، وَبِأَمْرِ الْخَالِقِ قَامَ الْمَخْلُوقُ، وَقَالَ: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: ٢٥] فَبِدَعْوَةِ ⦗١٧٠⦘ اللَّهِ يَخْرُجُونَ. وَاحْتَجَّ الْجَهْمِيُّ بِآيَةٍ انْتَزَعَهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: ٣]، فَهَلْ يُدَبَّرُ إِلَّا مَخْلُوقٌ؟ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَكُونُ لَفْظُهُ وَاحِدًا بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَجَاءَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، فَإِنَّمَا يَعْنِي: يُدَبِّرُ أَمْرَ الْخَلْقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدَبِّرَ كَلَامَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ عَلِيمٌ، وَكَلَامُهُ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا تَدْبِيرُ الْكَلَامِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ فِي كَلَامِهِمُ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ، فَهُمْ يُدَبِّرُونَ كَلَامَهُمْ مَخَافَةَ ذَلِكَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْخَطَأِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الصَّوَابِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخْطِئُ وَلَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى وَلَا يُدَبِّرُ كَلَامَهُ، وَقَالَ تَعَالَى {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ بَعْدُ} [الروم: ٤]، يَقُولُ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلِ الْخَلْقِ وَمِنْ بَعْدِ الْخَلْقِ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: ٥]، يَعْنِي: هِدَايَةٌ هَدَاكُمُ اللَّهُ بِهَا، وَالْهِدَايَةُ عِلْمُهُ، وَالْعِلْمُ مِنْهُ وَمُتَّصِلٌ بِهِ، كَمَا أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ مُتَّصِلٌ بِعَيْنِ الشَّمْسِ، فَإِذَا غَابَتْ عَيْنُ الشَّمْسِ ذَهَبَ الشُّعَاعُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الدَّائِمُ الْأَبَدِيُّ الْأَزَلِيُّ، وَعِلْمُهُ أَزَلِيٌّ، وَكَلَامُهُ دَائِمٌ لَا يَغِيبُ عَنْ شَيْءٍ وَلَا يَزُولُ، ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ لِيُضِلَّ بِهِ الضُّعَفَاءَ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْقُرْآنِ، هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَوْ لَا شَيْءَ؟ ⦗١٧١⦘ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ: لَا شَيْءَ، فَيُقَالُ لَهُ: هُوَ شَيْءٌ , فَيَظُنُّ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَدْ ظَفَرَ بِحُجَّتِهِ وَوَصَلَ إِلَى بُغْيَتِهِ، فَيَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ} [الأنعام: ١٠٢]، وَالْقُرْآنُ شَيْءٌ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ، لِأَنَّ الْكُلَّ يَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، فَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الْكُلَّ يَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، فَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ ذَلِكَ وَأَكْذَبَكَ الْقُرْآنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: ١٨٥]، وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسٌ لَا تَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَلِّ، وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ شَيْءٌ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، كَمَا قَالَ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: ٨٨]، وَقَالَ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: ٥٨]. فَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ لَا نَفْسَ لَهُ، فَقَدْ أَكْذَبَكَ الْقُرْآنُ وَرَدَّ عَلَيْكَ قَوْلَكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: ٥٤]، وَقَالَ {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: ٢٨]، وَقَالَ {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: ٤١]، وَقَالَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ عِيسَى ⦗١٧٢⦘ {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: ١١٦]. فَقَدْ عَلِمَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ حَقٌّ، وَمَا قَالَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَأَنَّ لِلَّهِ نَفْسًا، وَأَنَّ نَفْسَهُ لَا تَمُوتُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: ١٨٥] لَا تَدْخُلُ فِي هَذَا نَفْسُ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ كَلَامُهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ، كَمَا تَخْرُجُ نَفْسُهُ مِنَ الْأَنْفُسِ الَّتِي تَمُوتُ، وَقَدْ فَهِمَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَعَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ، وَنَفَسَ اللَّهِ، وَعَمَلَ اللَّهِ، وَقُدْرَةَ اللَّهِ، وَعِزَّةَ اللَّهِ، وَسُلْطَانَ اللَّهِ، وَعَظَمَةَ اللَّهِ، وَحِلْمَ اللَّهِ، وَعَفْوَ اللَّهِ، وَرِفْقَ اللَّهِ، وَكُلَّ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهَا كُلَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّهَا صِفَاتُ الْخَالِقِ وَمِنَ الْخَالِقِ، فَلَيْسَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: ١٠٢]، لَا كَلَامُهُ، وَلَا عِزَّتُهُ، وَلَا قُدْرَتُهُ، وَلَا سُلْطَانُهُ، وَلَا عَظَمَتُهُ، وَلَا جُودُهُ، وَلَا كَرَمُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ بِقَوْلِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ إِلَهًا وَاحِدًا، وَهَذِهِ صِفَاتُهُ قَدِيمَةٌ بِقِدَمِهِ، أَزَلِيَّةٌ بِأَزَلِيَّتِهِ، دَائِمَةٌ بِدَوَامِهِ، بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ، لَمْ يَخْلُ رَبُّنَا مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَ الْجَهْمِيُّ صِفَاتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ إِبْطَالَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اعْتِقَادُهُ فِي إِثْبَاتِ الْإِيمَانِ بِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: ⦗١٧٣⦘ أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَبْدُ آنِيَّتَهُ لِيَكُونَ بِذَلِكَ مُبَايِنًا لِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ صَانِعًا. الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ وَحْدَانِيَّتَهُ، لِيَكُونَ مُبَايِنًا بِذَلِكَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَهُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُقَرِّبُهُ وَيُوَحِّدُهُ بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ قَدْ يُلْحِدُ فِي صِفَاتِهِ، فَيَكُونُ إِلْحَادُهُ فِي صِفَاتِهِ قَادِحًا فِي تَوْحِيدِهِ، وَلِأَنَّا نَجِدُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ وَالْإِيمَانِ بِهَا، فَأَمَّا دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِآنِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، فَلَسْنَا نَذْكُرُ هَذَا هَاهُنَا لِطُولِهِ وَسَعَةِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْجَهْمِيَّ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ الْإِقْرَارَ بِهِمَا وَإِنْ كَانَ جَحْدُهُ لِلصِّفَاتِ قَدْ أَبْطَلَ دَعْوَاهُ لَهُمَا. وَأَمَّا مَحَاجَّةُ اللَّهِ لِخَلْقِهِ فِي مَعْنَى صِفَاتِهِ الَّتِي أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوهُ بِهَا، ⦗١٧٤⦘ فَبِالْآيَاتِ الَّتِي اقْتَصَّ فِيهَا أُمُورَ بَرِيَّتِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا أَخْرَجَهَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُسْنِ الْقَوَامِ وَتَمَامِ النِّظَامِ، وَخَتَمَ كُلَّ آيَةٍ مِنْهَا بِذِكْرِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: ٣٧] فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ التَّدْبِيرَ الْعَجِيبَ الَّذِي دَبَّرَ بِهِ أَمْرَهَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: ٩٦]. فَإِنَّ هَذَا خَرَجَ فِي ظَاهِرَهِ مَخْرَجَ الْخَبَرِ، وَهُوَ فِي بِاطِنِهِ مَحَاجَّةٌ بَلِيغَةٌ لِأَنَّ الَّذِي يَعْقِلُ مِنْ تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ لَو لَمْ تَكُنْ قُدْرَتُهُ نَافِذَةً لَمَا جَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى مَا وُجِدَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِلْمُهُ سَابِقًا لِمَا خَلَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الْعَجِيبِ، إِذْ كَانَ مِمَّا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَنَّ الْمُتَعَسِّفَ فِي أَفْعَالِهِ لَا يُوجَدُ لَهَا قِوَامٌ وَلَا انْتِظَامٌ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَشْهِدُ لِخَلْقِهِ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ الْعَجِيبَةِ، وَإِتْقَانِهِ لِمَا خَلَقَ، وَإِحْكَامِهِ عَلَى سَابِقِ عِلْمِهِ وَنَافِذِ قُدْرَتِهِ وَبَلِيغِ حِكْمَتِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: ٣]. لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ عَيْنَ الْمَصْنُوعِ أَوْجَبَ صَانِعًا، كَذَلِكَ مَا ظَهَرَ فِي آثَارِ الْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ فِي الصَّنْعَةِ أَوْجَبَ حَكِيمًا قَادِرًا، وَفِي دَفْعِ آلَاتِ الصَّنْعَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ الصَّانِعُ ⦗١٧٥⦘ مَوْصُوفًا بِهَا، جَحْدٌ لِلصَّانِعِ وَإِبطْالٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الْجَهْمِيُّ صِفَاتِ الْبَارِي تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ إِبْطَالَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْغَرَ خَلْقِهِ إِنْ أَبْطَلْتَ صَنْعَتَهُ بَطَلَ؟ فَكَيْفَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّخْلَةَ لَهَا جِذْعٌ وَكَرَبٌ، وَلِيفٌ، وَجُمَّارٌ، وَلُبٌّ، وَخُوصٌ وَهِيَ تُسَمَّى نَخْلَةً، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: نَخْلَةٌ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ النَّخْلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِهَذَا الِاسْمِ نَخْلَةٌ، فَلَوْ قَالَ: نَخْلَةٌ وَجِذْعُهَا وَكَرَبُهَا وَلِيفُهَا وَجُمَّارُهَا وَلُبُّهَا وَخُوصُهَا وَتَمْرُهَا كَانَ مُحَالًا، لِأَنَّهُ يُقَالُ: فَالنَّخْلَةُ مَا هِيَ إِذَا جَعَلْتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ غَيْرَهَا؟ أَرَأَيْتَ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ لِي نَخْلَةً كَرِيمَةً آكُلُ مِنْ تَمْرِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا جِذْعٌ وَلَا كَرَبٌ وَلَا لِيفٌ وَلَا خُوصٌ وَلَا لُبٌّ وَلَيْسَ هِيَ خَفِيفَةً، وَلَيْسَ هِيَ ثَقِيلَةً، أَيَكُونُ هَذَا صَحِيحًا فِي الْكَلَامِ؟ أَوَلَيْسَ إِنَّمَا جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ: نَخْلَةٌ عَرَفْنَاهَا بِصِفَاتِهَا، ثُمَّ نَعَتَ نَعْتًا نُفِيَتْ بِهِ النَّخْلَةُ. فَأَنْتَ مِمَّنْ لَا يُثْبِتُ مَا سَمَّى إِنْ كَانَ صَادِقًا، فَلَا نَخْلَةَ لَكَ. فَإِذَا كَانَتِ النَّخْلَةُ فِي بُعْدِ قَدْرِهَا مِنَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ تُبْطَلُ إِذَا نُفِيَتْ ⦗١٧٦⦘ صِفَاتُهُا، فَلَيْسَ إِنَّمَا أَرَادَ الْجَهْمِيُّ إِبْطَالَ الرُّبُوبِيَّةَ وَجُحُودَهَا فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْمَخْلُوقِ أَنَّ اسْمَهَ جَامِعٌ لِصِفَاتِهِ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ لَا تُبَايِنُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْجَهْمِيُّ يَقُولُ إِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ، وَلَا عِلْمَ، وَلَا عِزَّةَ، وَلَا كَلَامَ، وَلَا اسْمَ حَتَّى خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَكَانَ بَعْدَ مَا خَلَقَهُ. فَإِذَا أَبْطَلَ صِفَاتِهِ فَقَدْ أَبْطَلَهُ، وَإِذَا أَبْطَلَهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ فَقَدْ أَبْطَلَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، حَتَّى يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا إِلَهًا وَاحِدًا قَدِيمًا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَبْقَى بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا بَعْدَ فَنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُقَالُ لِلْجَهْمِيِّ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: ١٦] أَنَّ قَوْلَهُ {كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: ٦٢] يَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، لِأَنَّ الْكَلَّ يَجْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: ٨٨]، فَهَلْ يَهْلِكُ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ؟ هَلْ يَهْلِكُ عِلْمُ اللَّهِ فَيَبْقَى بِلَا عِلْمٍ؟ هَلْ تَهْلِكُ عِزَّتُهُ؟ تَعَالَى رَبُّنَا عَنْ ذَلِكَ، أَلَيْسَ هَذِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَهْلِكُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: ٤٤] فَقَدْ قَالَ: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: ٤٤]، فَهَلْ فَتَحَ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ التَّوْبَةِ، وَأَبْوَابَ الرَّحْمَةِ، وَأَبْوَابَ الطَّاعَةِ، وَأَبْوَابَ الْعَافِيَةِ، وَأَبْوَابَ السَّعَادَةِ، وَأَبْوَابَ النَّجَاةِ مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ؟ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِمَّا أَغْلَقَ أَبْوَابَهَا عَنْهُمْ، وَهِيَ شَيْءٌ، وَقَدْ قَالَ {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: ٤٤]، ⦗١٧٧⦘ وَقَدْ قَالَ أَيْضًا: فِي بِلْقِيسَ {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: ٢٣]، وَلَمْ تُؤْتَ مُلْكَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ تُسَخَّرْ لَهَا الرِّيحُ وَلَا الشَّيَاطِينُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِمَّا فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، فَقَدْ قَالَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: ٢٣]، وَقَالَ فِي قَصَصِ يُوسُفَ، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: ١١١]، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ، وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: ٣٠] وَلَمْ يَخْلُقْ آدَمَ مِنَ الْمَاءِ وَإِنَّمَا خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ، وَلَمْ يَخْلُقْ إِبْلِيسَ مِنَ الْمَاءِ قَالَ {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: ٢٧]، وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقَتْ مِنْ نُورٍ. وَقَالَ فِي الرِّيحِ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ عَادٍ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: ٢٥]، وَقَدْ أَتَتْ عَلَى أَشْيَاءَ لَمْ تُدَمِّرْهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ {فَأَصْبَحُوا لَا تُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، فَلَمْ تُدَمِّرْ مَسَاكِنَهُمْ، ⦗١٧٨⦘ وَلَوْ أَنْصَفَ الْجَهْمِيُّ الْخَبِيثُ مِنْ نَفْسِهِ وَاسْتَمَعَ كَلَامَ رَبِّهِ وَسَلَّمَ لِمَوْلَاهُ وَأَطَاعَهُ، لَتَبَيَّنَ لَهُ، وَلَكِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤]، فَالْجَهْمِيُّ الضَّالُّ وَكُلُّ مُبْتَدَعٍ غَالٍّ أَعْمَى أَصَمُّ قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْبَصِيرَةُ، فَهُوَ لَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَهْوَى، وَلَا يُبْصِرُ إِلَّا مَا اشْتَهَى. أَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: ٤٠]. فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ قَبْلَ الشَّيْءِ، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ الشَّيْءَ يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ إِرَادَةَ الشَّيْءِ يَكُونُ قَبْلَ قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ قَبْلَ الشَّيْءِ، إِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس: ٨٢]. فَالشَّيْءُ لَيْسَ هُوَ أَمْرُهُ، وَلَكِنَّ الشَّيْءَ كَانَ بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: ٤٧]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: ١٩] فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ شَيْءٌ، وَهُوَ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ أَكْبَرُ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَدْخُلُ فِي ⦗١٧٩⦘ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، فَإِذَا وَضَحَ لِلْعُقَلَاءِ كُفْرُ الْجَهْمِيِّ وَإِلْحَادُهُ، ادَّعَى أَمْرًا لِيَفْتِنَ بِهِ عِبَادَ اللَّهِ الضُّعَفَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرُونَا عَنِ الْقُرْآنِ، هَلْ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ؟ فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ اللَّهُ، فَأَنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ غَيْرُ اللَّهِ، فَمَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَيَظُنُّ الْجَهْمِيُّ الْخَبِيثُ أَنْ قَدْ فَلَجَتْ حُجَّتُهُ وَعَلَتْ بِدْعَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ الْعَالِمُ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ نَالَ بَعْضَ فِتْنَتِهِ. فَالْجَوَابُ لِلْجَهْمِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: الْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ قَالَ {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: ٦]، وَبِحَسْبِ الْعَاقِلِ الْعَالِمِ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُسَمِّيَ الْأَشْيَاءَ بِأَسْمَائِهَا الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ بِهَا، فَمَنْ سَمَّى الْقُرْآنَ بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِهِ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ وَلَا بِمَا سَمَّاهُ بِهِ، كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَعَلَى اللَّهِ مِنَ الْكَاذِبِينَ. ⦗١٨٠⦘ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: ١٧١]، فَهَذَا مِنَ الْغُلُوِّ وَمِنْ مَسَائِلِ الزَّنَادِقَةِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّهُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ كَلَامًا وَأَبْطَلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ اللَّهِ، كَمَا لَا يُقَالُ إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا قُدْرَةَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا عِزَّةَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا سُلْطَانَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا وُجُودَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: كَلَامُ اللَّهِ، وعِزَّةُ اللَّهِ، وَصِفَاتُ اللَّهِ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَبحَسْبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولله مِنَ الْمُطِيعِينَ وَبِكِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُصَدِّقِينَ ولِأَمْرِ اللَّهِ مِنَ الْمُتَّبِعِينَ أَنْ يُسَمِّيَ الْقُرْآنَ بِمَا سَمَّاهُ اللَّهُ بِهِ، فَيَقُولُ: ⦗١٨١⦘ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: ١٥]، وَلَمْ يَقُلْ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا اللَّهَ، وَلَمْ يَقُلْ: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا غَيْرَ اللَّهِ، وَقَالَ {بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: ١٤٤]، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْقُرْآنَ أَنَا هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرِي، فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ فِيهِ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ، فَمَنْ قَالَ هُوَ اللَّهُ، فَقَدْ قَالَ إِنَّ مُلْكَ اللَّهِ، وَسُلْطَانَ اللَّهِ، وَعِزَّةَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ سُلْطَانَ اللَّهِ وَعِزَّةَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ مُلْكَ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ مُلْكَ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُلْكَ اللَّهِ اغْفِرْ لَنَا، يَا مُلْكَ اللَّهِ ارْحَمْنَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ مُلْكَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، فَيَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَخْلُوقِ، فَيُبْطِلُ دَوَامَهُ، وَمَنْ أَبْطَلَ دَوَامَهُ أَبْطَلَ مَالِكَهُ، وَلَكِنْ يُقَالُ: مُلْكُ اللَّهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: ١]، وَكَذَلِكَ عِزَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: ١٠] يَقُولُ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ لِمَنِ الْعِزَّةُ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عِزَّةَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ، مَنْ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ تَزَلْ لَهُ الْعِزَّةُ، وَلَوْ كَانَتِ الْعِزَّةُ مَخْلُوقَةً لَكَانَ بِلَا عِزَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا حَتَّى خَلَقَهَا فَعَزَّ بِهَا، تَعَالَى رَبُّنَا وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ عِزَّةَ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَكَانَتْ رَغْبَةُ الرَّاغِبِينَ ⦗١٨٢⦘ وَمَسْأَلَةُ السَّائِلِينَ أَنْ يَقُولُوا: يَا عِزَّةَ اللَّهِ عَافِينَا، وَيَا عِزَّةَ اللَّهِ أَغْنِينَا، وَلَا يُقَالُ: عِزَّةُ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ: عِزَّةُ اللَّهِ صِفَةُ اللَّهِ، لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ اللَّهُ بِصِفَاتِهِ وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ، وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَجَمِيعُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَفَهَّمُوا حُكْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى عَزِيزًا، قَدِيرًا، عَلِيمًا، حَكِيمًا، مَلِكًا، مُتَكَلِّمًا، قَوِيًّا، جَبَّارًا، لَمْ يَخْلُقْ عِلْمَهُ وَلَا عِزَّهُ، وَلَا جَبَرُوتَهُ، وَلَا مُلْكَهُ، وَلَا قُوَّتَهُ، وَلَا قُدْرَتَهُ، وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ. وَالْجَهْمِيُّ الْخَبِيثُ يَنْفِي الصِّفَاتِ عَنِ اللَّهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْفِيَ عَنِ اللَّهِ التَّشْبِيهَ بِخَلْقِهِ، وَالْجَهْمِيُّ الَّذِي يُشَبِّهُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ وَلَا عِلْمَ، وَكَانَ وَلَا قُدْرَةَ، وَكَانَ وَلَا عِزَّةَ، وَكَانَ وَلَا سُلْطَانَ، وَكَانَ وَلَا اسْمَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ اسْمًا، وَهَذِهِ كلها صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَانَ وَلَا عِلْمَ، خَلَقُهُ اللَّهُ جَاهِلًا ثُمَّ عَلَّمَهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: ٧٨]، وَكَانَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يُطْلِقَ اللَّهُ لِسَانَهُ، وَكَانَ وَلَا قُوَّةَ وَلَا عِزَّةَ، وَلَا سُلْطَانَ حَتَّى يُقَوِّيَهُ اللَّهُ وَيُعِزَّهُ وَيُسَلِّطَهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ ⦗١٨٣⦘ وَكُلُّ مَنْ حَدَثَتْ صِفَاتُهُ، فَمُحْدَثٌ ذَاتُهُ، وَمَنْ حَدَثَ ذَاتُهُ وَصِفَتُهُ، فَإِلَى فَنَاءٍ حَيَاتُهُ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ إِذَا بَطَلَتْ حُجَّتُهُ فِيمَا ادَّعَاهُ، ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ فَقَالَ: أَنَا أَجِدُ فِي الْكِتَابِ آيَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، فَقِيلَ لَهُ: أَيَّةُ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: ٢] أَفَلَا تَرَوْنَ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ مَخْلُوقٌ؟ فَوَهِمَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالْأَحْدَاثِ وَأَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَمَوَّهَ عَلَيْهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ بِهِ عَالِمًا لَا يَكُونُ مُحْدِثًا، فَعِلْمُهُ أَزَلِيٌّ كَمَا أَنَّهُ هُوَ أَزَلِيٌّ، وَفِعْلُهُ مُضْمَرٌ فِي عِلْمِهِ، وإِنَّمَا يَكُونُ مُحْدِثًا مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَالِمًا حَتَّى عَلِمَهُ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِجَمِيعِ مَا فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ وَقَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ جِبْرِيلُ وَيَنْزِلَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قَالَ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠] قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ ⦗١٨٤⦘ وَقَالَ {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٣٤]. يَقُولُ: كَانَ إِبْلِيسُ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَافِرًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، ثُمَّ أَوْحَى بِمَا قَدْ كَانَ عَلَّمَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] فَنَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ {مَا يَأْتِيهُمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: ٢]، أَرَادَ: مُحْدَثًا عِلْمُهُ، وَخَبَرُهُ، وَزَجْرُهُ، وَمَوْعِظَتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّ عِلْمَكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَعْرِفَتَكَ مُحْدَثٌ بِمَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ عَلَيْكَ يُحْدِثُ لَكَ وَلِمَنْ سَمِعَهُ عِلْمًا وَذِكْرًا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَهُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: ١١٣]. وَقَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: ٥٢]. وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: ١١٣]، فَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ الْمُحْدِثَ هُوَ مَا يحْدثُ مِنْ سَامِعِيهِ وَمِمَّنْ عَلِمَهُ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا قُرْآنَ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ ⦗١٨٥⦘ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ بَعْدُ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا عِلْمَ وَلَا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ، وَلَا اسْمَ لَهُ، وَلَا عِزَّةَ لَهُ، وَلَا صِفَةَ لَهُ حَتَّى أَحْدَثَ الْقُرْآنَ. وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَلَا يُقَالُ: كَانَ اللَّهُ قَبْلَهُ، وَلَكِنْ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا لَا مَتَى عَلِمَ وَلَا كَيْفَ عَلِمَ، وَإِنَّمَا وَهَّمَتِ الْجَهْمِيَّةُ النَّاسَ وَلَبَّسَتْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُولَ: أَلَيْسَ اللَّهُ الْأَوَّلَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ وَلَا شَيْءَ، وإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي: كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَقَبْلَ الْأَرَضِينَ وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ، فَأَمَّا أَنْ نَقُولَ: قَبْلَ عِلْمِهِ، وَقَبْلَ قُدْرَتِهِ، وَقَبْلَ حِكْمَتِهِ، وَقَبْلَ عَظَمَتِهِ، وَقَبْلَ كِبْرِيَائِهِ، وَقَبْلَ جَلَالِهِ، وَقَبْلَ نُورِهِ، فَهَذَا كَلَامُ الزَّنَادِقَةِ وَقَوْلُهُ {مَا يَأْتِيهُمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: ٢]، فَإِنَّمَا هُوَ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ عِنْدَ نَبِيِّهِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَا يُحْدِثُهُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ، وَلَمْ يِأْتِهِمْ بِهِ كِتَابٌ قَبْلَهُ، وَلَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولٌ. أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: ٧]، وَإِلَى قَوْلِهِ فِيمَا يُحْدِثُ الْقُرْآنُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا سَمِعُوهُ {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: ٨٣] فَأَعْلَمَنَا أَنَّ الْقُرْآنَ يُحْدِثُ نُزُولُهُ لَنَا عِلْمًا وَذِكْرَا وَخَوْفًا، فَعِلْمُ نُزُولِهِ مُحْدَثٌ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مُحْدَثٍ عِنْدَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ حِينَ بَطَلَتْ دَعْوَاهُ وَظَهَرَتْ زَنْدَقَتُهُ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ، ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ وَوَهِمَ وَلَبَّسَ عَلَى أَهْلِ دَعْوَتِهِ، فَقَالَ: أَتَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَالْقُرْآنُ؟ فَإِنْ ⦗١٨٦⦘ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَالْقُرْآنُ، فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَمَعَهُ شَيْءٌ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّا لَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ وَلَا نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَزَلْ، وَالْكَلَامُ لَمْ يَزَلْ وَالْعِلْمُ، ولَمْ يَزَلْ وَالْقِوَّةُ، وَلَمْ يَزَلْ وَالْقُدْرَةُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كَمَا قَالَ {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: ٢٥]، وَكَمَا قَالَ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: ٩٦]، فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِقُوَّتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَجُودِهِ، وَكَرَمِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ، مُتَكَلِّمًا عَالِمًا، قَوِيًّا، عَزِيزًا، قَدِيرًا، مَلِكًا، لَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا بِبَائِنَةٍ مِنْهُ، وَلَا مُنْفَصِلَةٍ عنه، وَلَا تُجَزَّأُ وَلَا تَتَبَعَّضُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهَا مِنْهُ وَهِيَ صِفَاتُهُ، فَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {سَلَّامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: ٥٨]. وَقَالَ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: ١٣]، وَقَالَ: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: ٣١]، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَكُونُ بِكَلَامِهِ، فَقَالَ {فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. ⦗١٨٧⦘ وَقَالَ {قُلْنَا لَا تَخَفْ} [طه: ٦٨]، وَقَالَ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: ٦٩]، فَبِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَارَ أُولَئِكَ قِرَدَةً، وَبِقَوْلِهِ أَمِنَ مُوسَى، وَبِقَوْلِهِ صَارَتِ النَّارُ بَرْدًا وَسَلَامًا، ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ الْمَلْعُونَ غَالَطَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ آخَرَ، فَقَالَ: قُوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: ١٠٦]، فَقَالَ: كُلُّ مَا أَتَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِخَيْرٍ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَكَانَ هَذَا إِنَّمَا غَالَطَ بِهِ الْجَهْمِيُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: ١٠٦] يُرِيدُ بِخَيْرٍ لَكُمْ، وَأَسْهَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْعَمَلِ وَأَنْفَعَ لَكُمْ فِي الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ يُنَزِّلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ الَّذِي فِيهِ الشِّدَّةُ ثُمَّ يَنْسَخُهُ بِالسُّهُولَةِ وَالتَّخْفِيفِ؟ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ وَالصَّلَاةَ كَانَتْ مَفْرُوضَةً فِيهِ عَلَى أَجْزَاءَ مَعْلُومَةٍ وَأَوْقَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَجْزَائِهِ مَقْسُومَةٍ، فَعَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا عَلَى الْعِبَادِ فِي ذَلِكَ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ وَقُصُورِ عَمَلِهِمْ عَنْ إِحْصَاءِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَأَجْزَائِهِ، فَنَسَخَهَا بِصَلَاةِ النَّهَارِ وَأَوْقَاتِهِ. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ ⦗١٨٨⦘ عَلَيْكُمْ} [المزمل: ٢٠] يَقُولُ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُطِيقُوهُ، فَنَسَخَ ذَلِكَ، فَقَالَ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: ١١٤]، وَ {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: ٧٨] وَمَنْ ذَلِكَ أَنَّ الصِّيَامَ كَانَ مَفْرُوضًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ وَنَامَ ثُمَّ انْتَبَهَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطْعَمَ إِلَى الْعِشَاءِ مِنَ الْقَابِلَةِ فَنَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. . .} [البقرة: ١٨٧] إِلَى قَوْلِهِ {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ. . .} [البقرة: ١٨٧] إِلَى قَوْلِهِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: ١٨٧]. وَمِثْلُ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: ١٠٢]، وَكَانَ هَذَا أَمْرًا لَا يَبْلَغُهُ وُسْعُ الْعِبَادِ، فَنَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦]، فَهَذَا وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ، تَرَكْنَا ذِكْرَهُ لِئَلَّا يَطُولَ الْكِتَابُ بِهِ، أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنُزُولِ النَّاسِخِ رَفْعَ الْمَنْسُوخِ، وَلِيَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ، لَا أَنَّهُ يَأْتِي بِقُرْآنٍ خَيْرٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ خَيْرًا لَنَا وَأَسْهَلَ عَلَيْنَا. أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ⦗١٨٩⦘ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: ١٨٧]، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: ٢٠]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرِ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥]. فَهَذَا وَشِبْهُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، لَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ شَيْءٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: سُورَةُ كَذَا خَيْرٌ مِنْ سُورَةِ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا شَرٌّ مِنْ سُورَةِ كَذَا، وَمِمَّا يُغَالِطُ بِهِ الْجَهْمِيُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: ٤٢] فَقَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ بَيْنَ يَدَيْنِ وَخَلْفٌ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ شَخْصًا فَيَكُونُ لَهُ خَلْفٌ وَقُدَّام، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى لَا يَأتِيهِ التَّكْذِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فِيمَا نَزَلَ قَبْلَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ قَبْلَهُ. {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: ٤٢]، يَقُولُ: وَلَا يَأْتِي بَعْدَهُ بِكِتَابٍ يُبْطِلُهُ وَلَا يُكَذِّبُهُ، كَمَا أَخْبَرَنَا أَنَّهُ أَيْضًا مُصَدِّقٌ لِمَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَقَالَ {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: ٩٢]. يُقَالُ لِمَا كَانَ قَبْلَ الشَّيْءِ وَأَمَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا كَانَ بَعْدَهُ خَلْفَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: ١٢]، ⦗١٩٠⦘ لَا يُرِيدُ أَنَّ لِلصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدِينٍ وَخَلْفًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ قَبْلَ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً، وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: ٥٧] يُرِيدُ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ قَبْلَ الْمَطَرِ. وَقَالَ {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: ٤٦]، يَقُولُ: نَذِيرٌ قَبْلَ الْعَذَابِ. وَكَذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [فصلت: ٤٢]، أَرَادَ قَبْلَهُ وَلَا مِنْ بَعْدِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مَعْنَى الْمَخْلُوقِ، لَكَانَ شَخْصًا لَهُ قُدَّام وَخَلْفٌ وَظَهْرٌ وَبَطْنٌ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَرَأْسٌ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}، فَزَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}، فَالْحَقُّ الَّذِي خَلَقَ بِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: ٨٤]⦗١٩١⦘ وَقَالَ: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [الأنعام: ٧٣]، فَأَخْبَرَ بِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ كَانَ بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ، وَقَالَ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [المائدة: ٧٣]، وَقَالَ: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: ٥]، يَعْنِي قَوْلَهُ وَكَلَامَهُ، فَقَوْلُهُ وَكَلَامُهُ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَتَفَهَّمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، وَلَا يَسْتَفِزَّنَّكُمُ الْجَهْمِيُّ الْخَبِيثُ بِتَغَالِيطِهِ وَتَمْوِيهِهِ وَتَشْكِيكِهِ لِيُزيِلَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّ الْجَهْمِيَّ لَا يَأْلُوا جَهْدًا فِي تَكْفِيرِ النَّاسِ وَتَضْلِيلِهِمْ عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ بِرَحْمَتِهِ وَيُقَالُ لِلْجَهْمِيِّ: أَخْبِرْنَا: مَنْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا؟ فَإِذَا قَالَ: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُ: فَجَعَلْتَ خَبَرَ اللَّهِ عَنِ الْخَلْقِ خَلْقًا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ , وَيَقُولُ: إِنَّ الْخَبَرَ عَيْنُ الْمُخْبِرِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَالْخَبَرُ مَخْلُوقٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ وَيَقُولُ: الْخَبَرُ غَيْرُ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ تَفَرَّدَ اللَّهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ دُونَ خَلْقِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: فَالْخَبَرُ الَّذِي زَعَمْتَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ غَيْرُ اللَّهِ مَنْ قَالَ لَهُ: أَخْبِرِ الْخَلْقَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ، أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ خَلْقًا دُونَ خَلْقٍ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ نَكُونَ نَحْنُ ذَلِكَ الْخَلْقَ الَّذِينَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ هُوَ خَلَقَ الْخَلْقَ؟ وَإِنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْبِرْ ذَلِكَ الْخَلْقَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُعْلِمَ الْخَلْقَ بِذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: فَقَدْ أَقْرَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وَزَعَمْتَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ هُوَ غَيْرُ اللَّهِ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ هَذَا الْخَبَرُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ ⦗١٩٢⦘ وَالْأَرْضَ؟ وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يُعْلِمْ وَلَمْ يَأْمُرْه بِهِ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُوضَحُ كُفْرُ الْجَهْمِيَّ وَكَذِبُهُ عَلَى اللَّهِ وَقَبِيحُ ضَلَالِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّةَ كَذَّبَتِ الْآثَارَ وَجَحَدَتِ الْأَخْبَارَ، وَطَعَنَتْ عَلَى الرُّوَاةِ، وَاتَّهَمُوا أَهْلَ ⦗١٩٣⦘ الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَانْتَصَحُوا أَهْوَاءَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، وَاتَّخَذُوا أَهْوَاءَهُمْ آلِهَةً مَعْبُودَةً وَأَرْبَابًا مُطَاعَةً. فَإِذَا وَجَدُوا حَدِيثًا قَدْ وَهَمَ الْمُحَدِّثُ فِي رِوَايَتِهِ وَكَانَ فِي أَلْفَاظِ مَتْنِهِ بَعْضُ التَّلْبِيسِ وَالتَّوَهُّمِ، انْتَحَلُوهُ دِينًا، وَجَعَلُوهُ أَصْلًا، وَوَثَّقُوا رِوَايَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَصَحَّحُوهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُثْبِتُونَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِحَدِيثٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute