٤٢٥ - رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الذِّكْرَ، ثُمَّ خَلَقَ الذِّكْرَ، فَكَتَبَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ» فَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الذِّكْرُ، وَاللَّهُ خَلَقَ الذِّكْرَ، فَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَحُفَّاظَ الْحَدِيثِ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَهِمَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ وَخَالَفَ فِيهِ أَصْحَابَ الْأَعْمَشِ وَكُلَّ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: رَوَاهُ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ مِنَ ⦗١٩٤⦘ الثِّقَاتِ، فَلَمْ يَقُولُوا: خَلَقَ الذِّكْرَ، وَلَكِنْ قَالُوا: كَتَبَ فِي الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ هَاهُنَا غَيْرُ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَ الْجَهْمِيَّةِ فِي أَكِنَّةٍ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، فَلَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا مَا تَشَابَهَ، وَلَا يَقْبَلُونَ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا ضَعُفَ وَأُشْكِلَ، وَالذَّكَرُ هَاهُنَا هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ كُلِّ شَيْءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِيَ لَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ أَفَتَرَاهُ كَتَبَ فِي كَلَامِهِ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الذِّكْرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَالَ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: ١]، يَعْنِي: ذَا الشَّرَفِ، وَقَالَ {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: ١٠]، يَعْنِي: شَرَفَكُمْ. وَقَالَ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون: ٧١]، يَعْنِي: بِخَبَرِهِمْ. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: ٤٤]، يَقُولُ: وَإِنَّهُ لَشَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. وَقَالَ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: ٩] يَعْنِي: الصَّلَاةَ. وَقَالَ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: ١٠٥] يَعْنِي: فِي اللَّوْحِ ⦗١٩٥⦘ الْمَحْفُوظِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ هَاهُنَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُ قَالَ {فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: ١٠٥]، وَالزَّبُورُ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرُ أَيْضًا هُوَ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا أَعْلَمْتُكَ، إِلَّا أَنَّ الْحَرْفَ يَأْتِي بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَمَعْنَاهُ شَتَّى وَالْجَهْمِيُّ يَقْصِدُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ سَبِيلَهُ، فَيَتَأَوَّلُهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يُوَافِقُ هَوَاهُ، وَلَا يَجْعَلُ لَهُ وَجْهًا غَيْرَهُ، وَاللَّهُ يُكَذِّبُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ هَوَاهُ. وَمِمَّا وَضَحَ بِهِ كُفْرُ الْجَهْمِيِّ مَا رَدَّهُ عَلَى اللَّهِ وَجَحَدَهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا قَطُّ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا أَبَدًا، فَيُقَالُ لَهُ: فَأَخْبِرْنَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ: قَالَ اللَّهُ وَقُلْنَا، وَيَوْمَ نَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا كُلُّهُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ: قَالَ الْحَائِطُ فَسَقَطَ، وَقَالَتِ النَّخْلَةُ فَمَالَتْ، وَقَالَتِ النَّعْلُ فَانْقَطَعَتْ، وَقَالَتِ الْقَدَمُ فَزَلَّتْ، وَقَالَتِ السَّمَاءُ فَهَطَلَتْ، وَالنَّخْلَةُ وَالْحَائِطُ وَالسَّمَاءُ لَمْ يَقُولُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا قَطُّ، فَرَدَّ الْجَهْمِيُّ كِتَابَ اللَّهِ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: ٤]، وَلِسَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَانٌ قُرَشِيٌّ، وَهُمْ أَوْضَحُ ⦗١٩٦⦘ الْعَرَبِ بَيَانًا وَأَفْصَحَهُا لِسَانًا، وَهَذَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فُصَحَاءُ الْعَرَبِ، فَحَكَمُوا عَلَى اللَّهِ بِمَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ عَوَامِّ النَّاسِ، وَشَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْحَائِطِ وَالنَّخْلَةِ وَالنَّعْلِ وَالْقَدَمِ. وَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَنْ قَالَ: سَقَطَ الْحَائِطُ، وَهَطَلَتِ السَّمَاءُ، وَزَلَّتِ الْقَدَمُ، وَنَبَتَتِ الْأَرْضُ، وَلَمْ يَقُلْ: قَالَ الْحَائِطُ، وَلَا قَالَتِ السَّمَاءُ وَأَسْقَطَ قَالَ وَقَالَتْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، أَيَكُونُ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ؟ أَمْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْحَقِّ فِي خِطَابِهِ؟ فَإِذَا قَالَ: لَيْسَ بِتَارِكٍ لِلْحَقِّ، قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ عَمَدَ إِلَى كُلِّ قَالَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ فَمَحَاهُ، هَلْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْحَقِّ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَهَا يَبِينُ كُفْرُ الْجَهْمِيِّ وَكَذِبُهُ. وَمِمَّا يُغَالِطُ بِهِ الْجَهْمِيُّ جُهَّالَ النَّاسِ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، أَنْ يَقُولَ: خَبِّرُونَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢] فَيَقُولُ: خَبِّرُونَا عَنْ هَذَا الشَّيْءِ، أَمَوْجُودٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ مَوْجُودٍ؟ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس: ٨٢] هُوَ فِي عِلْمِهِ كَائِنٌ بِتَكْوِينِهِ إِيَّاهُ، قَالَ لِذَلِكَ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ مَخْلُوقٌ: كُنْ كَمَا أَنْتَ فِي عِلْمِي، فَيَكُونُ كَمَا عَلِمَ وَشَاءَ، لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا غَيْرَ مَخْلُوقٍ، فَصَارَ مَعْلُومًا مَخْلُوقًا كَمَا قَالَ وَشَاءَ وَعَلِمَ. وَيُقَالُ لِلْجَهْمِيِّ: أَلَسْتَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ. فَيَقُولُ: لَا أَقُولُ، إِنَّهُ يَقُولُ فَيَرُدُّ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَكْفُرُ بِهِ وَيَقُولُ: لَا، وَلَكِنَّهُ ⦗١٩٧⦘ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا كَانَ، فَيُقَالُ لَهُ: يُرِيدُ أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ، أَنْ يَمُوتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَأَنْ يُبْعَثُوا كُلُّهُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُقَالَ فَيَكُونُ. وَقَالَ الْجَهْمِيُّ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَبَدًا. وَقِيلَ لَهُ: مَنْ يُحَاسَبُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَنِ الْقَائِلُ {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: ٧] وَمَنِ الْقَائِلُ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: ٦]، وَمَنِ الْقَائِلُ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: ٩٣]، وَمَنِ الْقَائِلُ {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: ١٤٤]؟. وَمَنِ الْقَائِلُ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: ١٤]؟ وَمَنِ الْقَائِلُ {إِنِّي أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وَمَنِ الْقَائِلُ {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: ١١٦]؟ ⦗١٩٨⦘ فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا تَكْثُرُ عَلَى الْإِحْصَاءِ مِنْ مُخَاطَبَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ الْجَهْمِيُّ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَخْلُقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ حِسَابًا، فَقِيلَ لِلْجَهْمِيِّ. هَذَا الْخَلْقُ هُوَ غَيْرُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قِيلَ لَهُ: فَيَقُولُ اللَّهُ لِهَذَا الْخَلْقِ: أَخْبِرِ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ؟ فَقَالَ: لَا يَقُولُ لَهُ، إِنْ قُلْتَ إِنَّهُ يَقُولُ، فَقَدْ تَكَلَّمَ، فَقُلْنَا: مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ هَذَا الْخَلْقُ مَا قَدْ أَحْصَاهُ اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ وَالْغَيْبُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ كُفْرُ الْجَهْمِيِّ. ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّ ادَّعَى أَمْرًا آخَرَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: ١٧١] فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَعِيسَى مَخْلُوقٌ. فَقِيلَ لِلْجَهْمِيِّ: جَهْلُكَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَبِيحُ تَأْوِيلِكَ قَدْ صَارَ بِكَ إِلَى صُنُوفِ الْكُفْرِ، وَجَعَلَكَ تَتَقَلَّبُ فِي فُنُونِ الْإِلْحَادِ، فَكَيْفَ سَاغَ لَكَ أَنْ تَقِيسَ عِيسَى بِالْقُرْآنِ؟ وَعِيسَى قَدْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظٌ وَتَقَلَّبَتْ بِهِ أَحْوَالٌ لَا يُشْبِهُ شَيْءٌ مِنْهَا أَحْوَالَ الْقُرْآنِ. مِنْهَا: أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَوَضَعَتْهُ وَأَرْضَعَتْهُ، فَكَانَ وَلِيدًا، وَرَضِيعًا، وَفَطِيمًا، وَصَبِيًّا، وَنَاشِئًا وَكَهْلًا وَحَيًّا نَاطِقًا، وَمَاشِيًا وَذَاهِبًا، وَجَائِيًا وَقَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَيَصُومُ وَيُصَلِّي، وَيَنَامُ وَيَسْتَيْقِظُ، وَيَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ، وَيَكُونُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانِ إِذَا أَكَلَ وَشَرِبَ. ⦗١٩٩⦘ وَبِذَلِكَ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَكْذِيبًا لِلنَّصَارَى حِينَ قَالُوا فِيهِ الْقَوْلُ الَّذِي يُضَاهِي قَوْلَكَ أَيُّهَا الْجَهْمِيُّ، فَقَالَ {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: ٧٥]، فَكَنَّى بِالطَّعَامِ عَنْ خُرُوجِ الْحَدَثِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا مُخَاطَبٌ بِالتَّعَبُّدِ وَبِالسُّؤَالِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَمُحَاسَبٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ حَيٌّ وَمَيِّتٌ وَمَبْعُوثٌ، فَهَلْ سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِشَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ عِيسَى؟ فَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: ١٧١]، فَالْكَلِمَةُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ قَوْلُهُ {كُنْ} [البقرة: ١١٧]، فَكَانَ عِيسَى بِقَوْلِهِ {كُنْ} [البقرة: ١١٧]، وَكَذَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: ٥٩]، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يُزِيلُ عَنْهُ وَهْمَ الْمُتَوَهِّمِ، فَقَالَ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: ١٤٧]، فَكَلِمَةُ اللَّهُ قَوْلُهُ: {كُنْ} [البقرة: ١١٧] وَالْمُكَوَّنُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْجَهْمِيُّ حَرِيصٌ عَلَى إِبْطَالِ صِفَاتِ رَبِّهِ لِإِبْطَالِ آنِيَّتِهِ وَمِمَّا يَدَّعِيهِ الْجَهْمِيُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَهُ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ قَوْلَهُ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: ٨٦]. ⦗٢٠٠⦘ فَقَالَ الْجَهْمِيُّ: فَهَلْ يَذْهَبُ إِلَّا مَخْلُوقٌ؟ وَكَمَا قَالَ {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: ٤١]، فَالْقُرْآنُ يَذْهَبُ كَمَا ذَهَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَفْحَشَ الْجَهْمِيُّ فِي التَّأْوِيلِ وَأَتَى بِأَنْجَسِ الْأَقَاوِيلِ، لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: ٨٦] لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْقُرْآنَ يَمُوتُ كَمَا تَمُوتُ، إِنَّمَا يُرِيدُ: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِحِفْظِهِ عَنْ قَلْبِكَ وَتِلَاوَتِهِ عَنْ لِسَانِكَ أَمَا سَمِعْتَ مَا وَعَدَ بِهِ مِنْ حِفْظِهِ لِلْقُرْآنِ حِينَ يَقُولُ {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، فَلَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مِنَ الْقُلُوبِ، لَكَانَ مَوْجُودًا مَحْفُوظًا عِنْدَ مَنِ اسْتَحْفَظَهُ إِيَّاهُ، وَلَئِنْ ذَهَبَ الْقُرْآنُ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَمَاتَ اللَّهُ كُلَّ قَارِئٍ لَهُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَوْجُودٌ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ وَفِي عِلْمِهِ، وَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩]، وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: ٢١]. وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجَهْمِيُّ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنْ قَالَ: أَلَيْسَ الْقُرْآنُ خَيْرًا؟ فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَلَى قَالَ: أَفَتَقُولُونَ أَنَّ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ؟ فَيَتَوَهَّمُ بِجَهْلِهِ أَنَّ لَهُ فِي هَذِهِ حُجَّةً وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَجَلِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ خَيْرٌ، وَعِلْمَ اللَّهِ خَيْرٌ، وَقُدْرَةَ اللَّهِ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا قُدْرَتُهُ مَخْلُوقَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا، فَكَيْفَ يَخْلُقُ كَلَامَهُ؟ وَلَوْ كَانَ ⦗٢٠١⦘ اللَّهُ خَلَقَ كَلَامَهُ لَخَلَقَ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ، فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَكَانَ وَلَا يَعْلَمُ، فَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَلَا مَلَائِكَتُهُ وَلَا أَنْبِيَاؤُهُ، وَلَا أَوْلِيَاؤُهُ، فَخَالَفَهُمْ كُلُّهُمْ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} [البقرة: ٣٠]، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} [البقرة: ٣٤]، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: ٣٠] وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: ٢٣]، وَلَمْ يَقُولُوا: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكَ قَالُوا الْحَقَّ. وَقَالَ جِبْرِيلُ {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: ٩] وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ سَأَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى عَنْ أَمْرِ الْبَقَرَةِ حِينَ {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: ٦٨]، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَقَالَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: ٥٨]. ⦗٢٠٢⦘ وَقَالَ أَعْدَاءُ اللَّهِ فِي النَّارِ {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: ٣١]، فَسَمَّى اللَّهُ قَوْلَهُ قَوْلًا وَلَمْ يُسَمِّهِ خَلْقًا، وَسَمَّتِ الْمَلَائِكَةُ قَوْلَ اللَّهِ قَوْلًا وَلَمْ تُسَمِّهِ خَلْقًا، وَسَمَّتِ الْأَنْبِيَاءُ قَوْلَ اللَّهِ قَوْلًا وَلَمْ تُسَمِّهِ خَلْقًا، وَسَمَّى أَهْلُ الْجَنَّةِ قَوْلَ اللَّهِ قَوْلًا وَلَمْ يُسَمُّوهُ خَلْقًا، وَسَمَّى أَهْلُ النَّارِ قَوْلَ اللَّهِ قَوْلًا وَلَمْ يُسَمُّوهُ خَلْقًا، وَسَمَّتِ الْجَهْمِيَّةُ قَوْلَ اللَّهِ خَلْقًا وَلَمْ تُسَمِّهِ قَوْلًا خِلَافًا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى مَلَائِكَتِهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ وَعَلَى أَوْلِيَائِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَجَأَتْ إِلَى الْمُغَالَطَةِ فِي أَحَادِيثَ تَأَوَّلُوهَا مَوَّهُوا بِهَا عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ: " يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُ نَهَارَكَ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ فَيَأْتِي اللَّهَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ تَلَانِي وَوَعَانِي وَعَمِلَ بِي " ⦗٢٠٣⦘ وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ: «تَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ»، فَأَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِهِ، وَإِنَّمَا عَنَى فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي قَوْلِهِ: يَجِيءُ الْقُرْآنُ وَتَجِيءُ الْبَقَرَةُ وَتَجِيءُ الصَّلَاةُ وَيَجِيءُ الصِّيَامُ، يَجِيءُ ثَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكُلُّ هَذَا مُبَيَّنٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧]، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَرَى الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، لَيْسَ يَرَى الْخَيْرَ ⦗٢٠٤⦘ وَالشَّرَّ وَإِنَّمَا ثَوَابَهُمَا وَالْجَزَاءَ عَلَيْهِمَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: ٣٠]، وَلَيْسَ يَعْنِي أَنَّهَا تِلْكَ الْأَعْمَالُ الَّتِي عَمِلَتْهَا بِهَيْئَتِهَا وَكَمَا عَمِلَتْهَا مِنَ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا تَجِدُ الْجَزَاءَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: ١٢٣]، فَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: يَجِيءُ الْقُرْآنُ، تَجِيءُ الصَّلَاةُ، وَتَجِيءُ الزَّكَاةُ، يَجِيءُ الصَّبْرُ، يَجِيءُ الشُّكْرُ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ ثَوَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ يُجْزَى مَنْ عَمِلَ السَّيِّءَ بِالسُّوءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٨]، أَفَتَرَى يَرَى السَّرِقَةَ وَالزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَسَائِرَ أَعْمَالِ الْمَعَاصِي إِنَّمَا يَرَى الْعِقَابَ وَالْعَذَابَ عَلَيْهِمَا، وَبَيَانُ هَذَا وَأَمْثَالُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَأَمَّا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَقَولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ظِلُّ الْمُؤْمِنُ صَدَقَتُهُ»، فَلَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»، فَإِرْشَادُكَ الضَّالَّةَ صَدَقَةٌ، وَتَحِيَّتُكَ لِأَخِيكَ بِالسَّلَامِ صَدَقَةٌ، وَأَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ صَدَقَةٌ، ⦗٢٠٥⦘ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَمُبَاضَعَتُكَ لِأَهْلِكَ صَدَقَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ مُبَاضَعَتِهِ لِأَهْلِهِ؟ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ كُلِّهِ ثَوَابَ صَدَقَتِهِ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، فَلْيَنْظُرْ مُعْسِرًا أَوْ لِيَدْعُ لَهُ»، فَأَعْلَمَكَ أَنَّ الظِّلَّ مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَمِمَّا غَالَطَ بِهِ الْجَهْمِيُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنْ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَالْقُرْآنُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ فِي جَوَابِ كَلَامِهِ هَذَا: إِنَّا لَسْنَا نَشُكُّ أَنَّ كُلَّ مَا دُونَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَلَكِنَّا لَا نَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَمِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَمِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: ٣٧] وَقَالَ: {سَلَّامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: ٥٨]، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ دُونِ رَبٍّ. وَقَالَ {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدَنَا} [الدخان: ٤]، وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ آمِرٍ، كَمَا لَا يَكُونُ الْقَوْلُ إِلَّا مِنْ قَائِلٍ، وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ إِلَّا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: قَالَ اللَّهُ، كَيْفَ يَقُولُهُ وَهُوَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، بَلْ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ قَالَهُ؟. وَمِمَّا غَالَطَ بِهِ الْجَهْمِيُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ، أَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَبُّ الْقُرْآنِ وَكُلُّ ⦗٢٠٦⦘ مَرْبُوبٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ. فَاحْتَجَّ الْجَهْمِيُّ بِكَلِمَةٍ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا الْقُرْآنُ، وَلَا جَاءَ بِهَا أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَا مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ حُجَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ خَفَّتْ عَلَى أَلَسُنِ بَعْضِ الْعَوَامِّ، وَجَازَتْ بَعْضُ اللُّغَاتِ، فَتَجَافَى لَهُمْ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي جَوَازِ ذَلِكَ كَمَا اسْتَجَازُوا أَنْ يَقُولُوا: مَنْ رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا رَبُّ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَلَيْسَ هُوَ خَلَقَهَا، وَكَمَا يَقُولُونَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْكَلَامِ، وَمَنْ رَبُّ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَمَنْ رَبُّ هَذَا الْكِتَابِ، أَيْ: مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ؟ وَمَنْ أَلَّفَ هَذَا الْكِتَابَ؟ وَمَنْ أَرْسَلَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ؟ لَا أَنَّهُ خَالِقُ الْكَلَامِ، وَلَا خَالِقُ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةَ. فَلِذَلِكَ اسْتَجَازَ بَعْضُ الْعَوَامِّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَخَفَّتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَا أَصْلَ لَهَا عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ، وَإِنَّمَا قَالُوا: يَا رَبَّ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ: يَا مَنْزِلَ الْقُرْآنِ وَيَا مَنْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَيَا قَائِلَ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مِنَ اللَّهِ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، جَازَ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ كُفْرَ الْجَهْمِيَّةَ وَكَذِبَهَا فِي دَعْوَاهَا أَنَّ كُلَّ مَرْبُوبٍ ⦗٢٠٧⦘ مَخْلُوقٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونَ اللَّهِ} [التوبة: ٣١]، أَفَتَرَى ظَنَّ الْجَهْمِيُّ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ خَلَقُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: ٤٢]، يَعْنِي: عِنْدَ سَيِّدِكَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: ٤٢] وَمِمَّا غَالَطَ بِهِ الْجَهْمِيُّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَاللَّوْحُ مَحْدُودٌ، وَكُلُّ مَحْدُودٍ مَخْلُوقٌ عَلَى أَنَّ الْجَهْمِيَّ يَجْحَدُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ وَيُنْكِرُهُ وَيَرُدُّ كِتَابَ اللَّهِ وَوَحْيَهُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ يُقِرُّ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يَرْجُو بِهِ الْحُجَّةَ لِكُفْرِهِ، فَقَالَ الْجَهْمِيُّ إِنَّ اللَّوْحَ بِمَا فِيهِ مَخْلُوقٌ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقٌ فِيهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَقَبَّحُوا فِي التَّأْوِيلِ وَكَفَرُوا بِالتَّنْزِيلِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ كُلُّ ذَلِكَ سَابِقُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الْقَلَمِ وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ فَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَكَانَ خَلَقَ الْقَلَمَ وَاللَّوْحَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ ⦗٢٠٨⦘ وَجَلَّ لَهُمَا كُونَا، فَقَوْلُهُ: قَبْلَ خَلْقِهِ، وَمَا فِي اللَّوْحِ كَلَامُهُ، وَإِنَّمَا مَا فِي اللَّوْحِ مِنَ الْقُرْآنِ الْخَطُّ وَالْكِتَابُ، فَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مَطَهَّرَةٍ} [عبس: ١٣]، وَإِنَّمَا كُرِّمَتْ وَرُفِعَتْ وَطُهِّرَتْ لِأَنَّهَا لِكَلَامِ اللَّهِ اسْتَوْدَعَتْ " وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقٌ فِيهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَذَلِكَ أَيْضًا يَهِتُّ مِنْ كَلَامِهِمْ وَيَتَنَاقَضُ فِي حُجَجِهِمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: ٣]، وَالسَّمَاوَاتُ مَخْلُوقَةٌ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى فِيهَا، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَخْلُوقًا فِيهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمِنْ أَصْلِ الْجَهْمِيَّةِ وَمَذَاهِبِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحِلُّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَفِي الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَمْكِنَةُ مَخْلُوقَةٌ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لَا مَخْلُوقَ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا قَالَ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: ٢٥٥] فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ⦗٢٠٩⦘ عِلْمُهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّ عِلْمَهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهَلْ يَكُونُ الْعِلْمُ مَخْلُوقًا؟ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَخْلُوقًا مَا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ، وَرَبُّنَا لَمْ يَزَلْ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا وَمِمَّا غَالَطَ بِهِ الْجَهْمِيُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ: الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا شَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ»، فَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُ، وَأَخْطَئُوا وَغَالَطُوا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ كَمَا غَالَطُوا بِالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِذَا تَفَهَّمَهُ الْعَاقِلُ وَجَدَهُ وَاضِحًا بَيِّنًا، فَلَوْ كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ مَخْلُوقَةً كَخَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ إِذًا لَكَانَتِ السَّمَاءُ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَلَكَانَتِ الْجَنَّةُ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَلَكَانَتِ النَّارُ أَعْظَمَ مِنْهَا لِقِلَّةِ حُرُوفِهَا وَخِفَّتِهَا عَلَى اللِّسَانِ، وَإِنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَطْوَلُ وَأَعْرَضُ وَأَوْسَعُ وَأَثْقَلُ وَأَعْظَمُ فِي الْمَنْظَرِ، وَلَا بَلَغَ ذَلِكَ كُلَّهُ مَبْلَغَ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ ⦗٢١٠⦘ كَلَامِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِ اللَّهِ كُلِّهِ مَا يَبْلُغُ عِظَمَ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ خَفَّ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَنْ يَعْظُمَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي أَعْيُنِ الْعِبَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ بِالْبَصْرَةِ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ؟ وَسُفْيَانُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ: لَيْسَ بِالْبَصْرَةِ مَعَ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ أَهْلِهَا مِثْلُهُ وَلَا مَنْ يُدَانِيهِ فِي فَضْلِهِ وَكَقَوْلِكَ: «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ»، فَلَمْ تُرِدْ أَنَّهُ أَصْدَقَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَصْدَقَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَنْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ أَحَدٌ فِي الصِّدْقِ، وَإِنْ فَضَلُوهُ فِي غَيْرِهِ. أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: ١٩]، فَسَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ⦗٢١١⦘ فَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا شَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ»، لِأَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَهِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ عَظِيمِ مَا خَلَقَ يَعْدِلُ بِآيَةٍ وَلَا بِحَرْفٍ مِنْ كَلَامِهِ " أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَظَّمَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ أَكْبَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَقَالَ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: ٥٧]؟ ثُمَّ آيَةُ الْكُرْسِيِّ مَعَ خِفَّتِهَا وَقِلَّةِ حُرُوفِهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَبِكَلَامِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَخُلِقَتِ الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهْمِيَّ الْخَبِيثَ يَقُولُ فِي الظَّاهِرِ: أَنَا أَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، فَإِذَا نَصَصْتُهُ قَالَ: إِنَّمَا أَعْنِي كَلَامَ اللَّهِ مِثْلُ مَا أَقُولُ: بَيْتُ اللَّهِ وَأَرْضُ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَمَسْجِدُ اللَّهِ، فَمَثَّلُ شَيْئًا لَا يُشْبِهُ مَا مَثَّلَهُ بِهِ، وَالتَّمْثِيلُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، فَإِنْ زَادَ التَّمْثِيلَ عَمَّا مُثِّلَ بِهِ أَوْ نَقَصَ بَطَلَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْتَ بُنِيَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي الْأَرْضِ، وَبَنَاهُ مَخْلُوقٌ، وَهُدِمَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَهُوَ مِمَّا يُدْخَلُ فِيهِ وَيُخْرَجُ عَنْهُ، وَالْمَسْجِدُ مِمَّا يُخَرِّبُ وَيَبِيدُ وَيَعْفُو أَثَرُهُ وَيَزُولُ اسْمُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ يُمْشَى عَلَيْهَا وَتُحْفَرُ وَيُدْفَنُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ نُطْفَةٌ، وَجَنِينٌ، وَمَوْلُودٌ، وَرَضِيعٌ، وَفَطِيمٌ، وَصَبِيُّ، وَنَاشِئٌ، وَشَابٌّ، وَكَهْلٌ، وَشَيْخٌ، وَآكِلٌ، وَشَارِبٌ، وَمَاشٍ، وُمَتَكَلِّمٌ، وَحَيُّ، وَمَيِّتٌ، فَهَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُشْبِهُ ⦗٢١٢⦘ الْقُرْآنَ وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قِيلَ لَهُمْ، فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ؟ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُمْ: وَتَزْعُمُونَ أَنَّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: ١] مَخْلُوقٌ، وَقَوْلُهُ {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: ٢٣]، وَأَنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: ١]، فَيُقَالُ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: يَا خَالِقَ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اغْفِرْ لَنَا، كَمَا يَقُولُ: يَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا خَالِقَ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ يَا خَالِقَ اللَّهِ الصَّمَدِ يَا خَالِقَ مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ كَمَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَيَا خَالِقَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا وَأَسْمَاءُ اللَّهِ مَخْلُوقَةً وَصِفَاتِهِ كَمَا زَعَمَ الْجَهْمِيُّ الْمَلْعُونَ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، لَكَانَ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ أَنْ يُدْعَى فَيُقَالُ: يَا خَالِقَ الْقُرْآنِ وَيَا خَالِقَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَيَا خَالِقَ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيَا خَالِقَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهَدًا حَلَفَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ؟ أَوَلَيْسَ إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَسَمَ بِأَسْمَائِهِ يَمِينًا يَبْرَأُ بِهَا الْمَطْلُوبُ مِنَ الطَّالِبِ، وَجَعَلَ الْحَلِفَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي حُقُوقِهِمْ وَالْأَيْمَانَ الْمُؤَكَّدَةَ الَّتِي يَتَحَوَّبُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْحِنْثِ بِهَا هِيَ الْحَلِفُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِذَلِكَ حَكَمَ حُكَّامُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ حَقٌّ أَوْ ادَّعَى لِنَفْيِهِ حَقًّا؟ أَوْ لَيْسَ ذَلِكَ هُوَ قَسَامَةُ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ قَتْلَ النَّفْسِ أَنْ ⦗٢١٣⦘ يَحْلِفَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الطَّالِبِ الْغَالِبِ إِلَى آخِرِ الْيَمِينِ؟ أَفَرَأَيْتَ لَوْ حَلَفَ، فَقَالَ: وَحَقِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْبِحَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، هَلْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا أَوْ تُبْرِئُهُ مِنْ دَعْوَى حَقِيرَةٍ صَغِيرَةٍ ادُّعِيَتْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَنِ ادُّعِيَتْ عَلَيْهِ الْأَمْوَالُ الْخَطِيرَةُ وَالْحُقُوقُ الْعَظِيمَةُ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَبِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي هِيَ فِي الْقُرْآنِ تُرَدَّدُ وَتُرْجَعُ وَتَكْثُرُ لَبِرِئَ مِنْ كُلِّ دَعْوَى عَلَيْهِ وَطَلْبَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامَهُ مِنْهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. أَوَلَيْسَ مَنْ قَالَ: يَا خَالِقَ الرَّحْمَنِ يَا خَالِقَ الْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ فَقَدْ أَبَانَ زَنْدَقَتَهُ وَأَرَادَ إِبْطَالَ الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ شَيْءٌ، حَتَّى خُلِقَ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا وَيَلْزَمُ الْجَهْمِيَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَبَّهَ رَبَّهُ بِالْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ النَّحَّاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْحِجَارَةِ، فَتَدَبَّرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ نَفْيَ الْجَهْمِيِّ لِلْكَلَامِ عَنِ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ رَبَّهُ كَهَذِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَيَّرَ قَوْمًا عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: ١٩٤] فَزَعَمَ الْجَهْمِيُّ أَنَّ رَبَّهُ كَذَا إِذَا دُعِيَ لَا يُجِيبُ ⦗٢١٤⦘ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ عَيَّرَ قَوْمَهُ بِعِبَادَةِ مَا لَا يَنْطِقُ حِينَ قَالَ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: ٦٣]، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ مَنْ لَا يَنْطِقُ إِلَهًا؟ فَلَمَّا أَسْكَتَهُمْ بِذَلِكَ وَبَّخَهُمْ فَقَالَ {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: ٦٦]، فَأَيُّ خَيْرٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَنْطِقُ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَإِنَّمَا يَدُورُ الْجَهْمِيُّ فِي كَلَامِهِ وَاحْتِجَاجِهِ عَلَى إِبْطَالِ صِفَاتِ اللَّهِ لِيُبْطِلَ مَوْضِعَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَالْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُكَذِّبَهُ وَيُدْحِضَ حُجَّتَهُ، فَتَفَكَّرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فِيمَا اعْتَقَدَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ وَقَالَتْهُ وَجَادَلَتْ فِيهِ وَدَعَتِ النَّاسَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمَا وَعَقْلًا وَوَهَبَ لَهُ بَصَرًا نَافِذًا وَذِهْنًا ثَاقِبًا، عَلِمَ بِحُسْنِ قَرِيحَتِهِ وَدِقَّةِ فِطْنَتِهِ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تُرِيدُ إِبْطَالَ الرُّبُوبِيَّةَ وَدَفْعَ الْإِلَهِيَّةَ، وَاسْتَغْنَى بِمَا يَدُلُّهُ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَتُنَبِّهُهُ عَلَيْهِ فِطْنَتُهُ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ الْقُدَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْجَهْمِيَّةَ زَنَادِقَةٌ، وَأَنَّهُمْ يَدُورُونَ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ، فَإِنَّ الْقَائِلِينَ لِذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ أَهْلُ صِدْقٍ وَأَمَانَةٍ وَوَرَعٍ وَدِيَانَةٍ، فَإِنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ وَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوا، فَإِنَّ الْجَهْمِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ مَا تَكَلَّمَ قَطُّ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَبَدًا، فَجَحَدُوا بِهَذَا الْقَوْلِ عِلْمَهُ وَأَسْمَاءَهُ وَقُدْرَتَهُ وَجَمِيعَ صِفَاتِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَبْطَلَ صِفَةً وَاحِدَةً، فَقَدْ أَبْطَلَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا، كَمَا أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُرَى فِي الْقِيَامَةِ، فَمَا بَالُهُمْ لَا يَأْلُونَ أَنْ يَأْتُونَ بِمَا فِيهِ ⦗٢١٥⦘ إِبْطَالِهِ وَإِبْطَالِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؟ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ مَا كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَلَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَا هُوَ عَلَى عَرْشِهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ لَمْ تُخْلَقَا بَعْدُ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهُمَا إِذَا خُلِقَتَا فَإِنَّهُمَا تُبِيدَانِ وَتَفْنَيَانِ. وَقَالُوا إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ لَا يُعَذَّبُونَ إِبْطَالًا لِلرُّجُوعِ بَعْدَ الْمَوْتِ. ⦗٢١٦⦘ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا مِيزَانَ، وَلَا صِرَاطَ، وَلَا حَوْضَ، وَلَا شَفَاعَةَ وَلَا كُتُبَ، وَجَحَدُوا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَبِالرَّقِّ الْمَنْشُورِ، وَبِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، فَلَيْسَ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ كَلَامِهِمْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَفْهَمُهُ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِبْطَالِ وَالْجُحُودِ بِجَمِيعِ مَا نَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَسْمَعُ، وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَغْضَبُ، وَلَا يَرْضَى وَلَا يُحِبُّ، وَلَا يَكْرَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ، وَكُلُّ مَا ادَّعُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَانْتَحَلُوهُ فَقَدْ أَكْذَبُهُمُ اللَّهُ فِيهِ وَنَطَقَ الْقُرْآنُ بِكُفْرِ مَنْ جَحَدَهُ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَتَّبَ عَلَى أَبِيهِ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: ٤٢] فَيَقُولُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَاتَبَ أَبَاهُ، وَنَقِمَ عَلَيْهِ عِبَادَةَ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، ثُمَّ عَادَ أَبَاهُ إِلَى عِبَادَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْيَنَ كُفْرِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ وَسَيَأْتِي تِبْيَانُ كُفْرِهِمْ وَإِيضَاحُ الْحُجَّةِ بِالْحَقِّ عَلَيْهِمْ مِنْ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ ⦗٢١٧⦘ نَبِيِّنًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالُوهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَبْوَابِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ فَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِذَا مَاتَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ مَنِ الْقَائِلُ {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: ١٦] وَقَدْ مَاتَ كُلُّ مَخْلُوقٍ، وَمَاتَ مَلَكُ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَرُدُّ رَبُّنَا تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: ٤٨]، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُ يَبْقَى مَخْلُوقٌ مَعَ اللَّهِ، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ، فَقَدْ كَذَّبُوا كِتَابَ اللَّهِ وَجَحَدُوا بِهِ وَرَدُّوهُ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَائِلًا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: ١٦]، أَلَيْسَ يَكُونُ كَاذِبًا وَلِكِتَابِ اللَّهِ رَادًّا، فَأَيُّ كُفْرٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟ وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا كَيْفَ حَالُ مَنْ لَا يُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ؟ فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ أَحْوَالُ الْكُفَّارِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ أَيْضًا أَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْبُدَلَاءِ، فَمَا فَضْلُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَلَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ مَعَ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنِ احْتِجَابِ اللَّهِ دُونَهُمْ وَتَرْكِ كَلَامِهِمْ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِمْ لَمَا كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ وَالتَّهْدِيدِ لَهُمْ بِهِ، وَلَا كَانَ ذَلِكَ بِضَائِرٍ لَهُمْ، إِذْ هُمْ فِيهِ وَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ سَوَاءٌ وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيِّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: مَنِ الْقَائِلُ {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكُ} [طه: ١١] فَإِنْ قَالُوا: خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا قَالَ ذَلِكَ لِمُوسَى، قِيلَ لَهُمْ: وَقَبِلَ ذَلِكَ ⦗٢١٨⦘ مُوسَى وَاسْتَجَابَ لِمَخْلُوقٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَقُولُ أَنَا رَبُّكُ؟ وَيُقَالُ لَهُ: مَنِ الْقَائِلُ {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: ٩]، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: ٣٠]؟ وَمَنِ الْقَائِلُ: {يَا مُوسَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}؟ فَإِنْ قَالَ الْجَهْمِيُّ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأْتِنِي بِكُفْرٍ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقٌ يَقُولُ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: ١٤]، فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ مُوسَى أَجَابَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ وَأَطَاعَهُ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ مُوسَى كَانَ يَعْبُدُ مَخْلُوقًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيُّ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ خُلِقَ عِنْدَهُمْ لِيُفْهِمَ مُوسَى أَنَّ خَالِقِي هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَاعْبُدْهُ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لَذِكْرِهِ وَلَوْ قَالَ الْجَهْمِيُّ ذَلِكَ أَيْضًا لَتَبَيَّنَ كُفْرُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ لَمْ يَكُنْ لَيَقُولَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤْمَرَ بِهِ، فَإِنْ قَالَ الْجَهْمِيُّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ قَالَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ يُؤْمَرُ بِهِ، فَقَدْ زَعَمَ الْجَهْمِيُّ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْقَصَصِ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ بِإِرَادَهِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ، فَقَدْ زَعَمَ أَنّ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَعْلَمُ مُرَادَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هُوَ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ مَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ، وَأَنَّ الْخَلْقَ يَسْعَوْنَ وَيَتَقَلَّبُونَ فِي أُمُورٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَمْ يَشَأْهَا اللَّهُ وَلَمْ يَعْلَمْهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ عَمِلُوهَا، وَيَزْعُمُونَ هَاهُنَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَهُ، وَاللَّهُ ⦗٢١٩⦘ يَقُولُ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ عِيسَى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: ١١٦]، وَالْجَهْمِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ الْخَلْقَ يَعْلَمُونَ مَا فِي نَفْسِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ حَتَّى يَقُولُوهُ أَوْ يُعْلِمُوهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْجَهْمِيُّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَالْجَهْمِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَاللَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: ٦٥] وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيُّ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}، وَقَوْلُهُ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: ١١]، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَخْلُوقًا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِمَخْلُوقٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: ١١]، فَالْجَهْمِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ مَخْلُوقًا خَلَقَ الْخَلْقَ دُونَهُ وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: ٤] فَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَمْرَهُ قَبْلَ الْخَلْقِ وَبَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ، فَالْأَمْرُ هُوَ كَلَامُهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيَفْعَلُ بِهِ مَا يُرِيدُ بِهِ وَيَخْلُقُ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: ٥٤]، فَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: الْخَلْقُ ⦗٢٢٠⦘ كُلُّ مَخْلُوقٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَمْرُ، فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: ٤]، وَقَالَ: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} [سبأ: ١٢]. وَقَالَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: ٢٩]، وَقَالَ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: ٦٤]، فَهَذِهِ كُلُّهَا لَو سُمِّيَ الْأَمْرُ فِيهَا بِاسْمِ الْخَلْقِ لَمْ يُجَزْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الْخَلْقُ يَدْخُلُ فِيهِ الْخَلْقُ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ الْخَلْقِ، وَالْخَلْقُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ خَلْقًا مِنْ عِنْدِنَا، وَلَا يُقَالُ: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ خَلْقِنَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قُلْ خَلَقَ رَبِّي بِالْقِسْطِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ خَلَقَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: حَتَّى إِذَا جَاءَ خَلْقُنَا وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْأَمْرِ مَعْنَى الْخَلْقِ، جَازَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْمَعْنَى، فَفِي هَذَا بَيَانُ كُفْرِ الْجَهْمِيَّةِ فِيمَا ادَّعُوهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَسَنُوَضِّحُ مَا قَالُوهُ بَابًا بَابًا، حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى مُسْتَرْشِدٍ أَرَادَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَأَحَبَّ أَنْ يَسْلُكَهَا، وَيَزِيدُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بَصِيرَةً، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ⦗٢٢١⦘
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute