للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتتهالك في الجزع وهو منزع الجهول ومغزاه. أن المحن إذا لم تعالج بالصبر، كانت كالمنح إذا لم تعالج بالشكر. إذا رأيت أن تأتي في توخي الصبر، واحراز الأجر ما يوجبه الحجا، فإنه أحرى بك وأحجى، صبراً صبرا ففحول الرجال لا تستفزها الأيام بخطوبها، كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها. المرء لا بد سال، ولو بعد أحوال وأحوال. فما عليك أن تعجل ما يغتنمه البررة، وتقدم ما يؤخره الفجرة؟

ذكر الموت

إن الله قد سوى بين البرية، في ورود حوض المنية، وحملهم فيها على عدل الحكومة والقضية، لينظر كل أحد إلى نفسه، ويعلم أنه مستثمر ما أنبت من غرسه. ما حيلة الإنسان وقد خانه أمله، وجاءه أجله، فبينا هو في رجاء، فسيح الأرجاء، إذا به قد دعي فأجاب من دون تعريج على استعداد، ولا تنفيس لأخذ زاد. الموت مشرع لا بد مورود، وكل وإن طال المدى مفقود. ما دوام أمر آخره انقطاع، واتصال عطاء عاقبته انتزاع؟ معلوم أن الموت كل شارب بكأسه، ومكتس من لباسه، وإنما هو تقدم أيام، وتأخر أعوام. كل ذي نهاية يصير كأن قد قطعت مراحله، ولحق بعاجله آجله. الموت خطب عظم حتى هان، ومس خشن حتى لان، فطن أنه مؤخر لتمام، ومنسأ لأيام وأعوام، والمنون تطلبه حثاً وحضاً، حتى تدركه خبباً وركضاً. هذه سبيل، فيها تعجيل وتأجيل، وإلا فالدهر كله أمس، والنفوس في مصافحة المنية كنفس، لله ما أغوص الموت على حبات القلوب، وأعرفه بمودات الصدور، وأخلصه إلى مكامن الروح، وايقظه لناسي العيون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. معلوم أن المورد فيه واحد، وسيان فيه ولد ووالد. هذه فرقة محتومة على كل شمل منتظم، ومكتوبة على كل حبل متصل وقديماً نعيت على الناس غربانها، وطارت في دورهم عقبانها.

<<  <   >  >>