في هاتين الآيتين ـ كما هو شأن الآيات القرآنية كلها ـ أسرار تعبيرية بديعة. والذي دعاني إلى الكتابة فيهما، أن سائلاً سألني مرة: لماذا قال تعالى: (فأصدق) بالنصب وعطف بالجزم، فقال:(وأكن) ولم يجعلهما على نسق واحد؟ فآثرت أن أكتب في هاتين الآيتين لارتباطهم.
(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) .
لقد نهى الله في هذه عن الانشغال بأمر الأموال والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها، والانشغال بأمر الأولاد إلى حد الفعلة عن ذكر الله، وإيثار ذلك عليه ومن يفعل ذلك كان خاسراً خسارة عظيمة.
هذا معنى الآية على وجه الإجمال، إلا أن هناك أسراراً تعبيرية تدعو إلى التأمل منها:
١ـ إنه قال:(لا تلهكم أموالكم) ومعنى (لا تلهكم) : لا تشغلكم [١] وقد تقول: لماذا لم يقل: (لا تشغلكم) ؟
والجواب: أن من الشغل ما هو محمود فقد يكون شغلاً في حق كما جاء في الحديث: "إن الصلاة لشغلاً" وكما قال تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ)[يس] أما الإلهاء فمما لا خير فيه وهو مذموم على وجه العموم، فاختار ما هو أحق بالنهي.
٢ـ لقد أسند الإلهاء إلى الأموال والأولاد فقال:(لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم) فقد نهى الأموال عن إلهاء المؤمن، والمراد في الحقيقة نهي المؤمن عن الالتهاء بما ذكر والمعنى لا تلتهوا بالمال والأولاد عن ذكر الله وهذا من باب النهي عن الشيء والمراد غيره، وهو كقوله تعالى:(فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم الله الغرور)[لقمان] فقد نهى الحياة الدنيا عن غير المؤمن والمراد نهي المؤمن عن الاغترار بالدنيا
إن المنهي في اللغة: هو الفاعل نحو قولك: (لا يضرب محمود خالداً) فـ (محمود) هو المنهي عن أن يضرب خالداً، ونحو قولك:(لا يسافر إبراهيم اليوم) فإبراهيم منهي عنة السفر. ونحو قوله تعالى:(لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن)[الحجرات] فالقوم هم المنهيون وكذلك النساء وكما تقول: (لا تضرب خالداً) و (لا تضربي هند) فالفاعل هو المنهي وليس المفعول به. والفاعل في الآية هو الأموال والأولاد أما المخاطبون فمفعول به فالمنهي إذن هي الأموال والأولاد، وهي منهية عن إلهاء المؤمن.