المفهوم الفعلي من حيث الدلالة اللغوية للتقديم والتأخير أنه إذا بدأنا بكلمة سابقة على غيرها فقد قدمناها في الكلام. والتقديم نوعان أو ثلاثة:
تقديم اللفظ على عامله نحو قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وقوله تعالى (وربك فكبّر) وقولنا: زيداً أكل أو زيداً أكرمت. وبمحمد اقتديت.
تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير العامل وذلك نحو قوله تعالى (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) البقرة وقوله (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) المائدة
أولاً: تقديم اللفظ على عامله:
ومن هذا الباب تقديم المفعول به على فعله وتقديم الحال على فعله وتقديم الظرف والجار والمجرور على فعلهما وتقديم الخبر على المبتدأ ونحو ذلك. وهذا التقديم في الغالب يفيد الإختصاص فقولك (أنجدت خالداً) يفيد أنك أنجدت خالداً ولا يفيد أنك خصصت خالداً بالنجاة بل يجوز أنك أنجدت غيره أو لم تنجد أحداً معه. فإذا قلت: خالداً أنجدت أفاد ذلك أنك خصصت خالداً بالنجدة وأنك لم تنجد أحداً آخر.
ومثل هذا التقديم في القرآن كثير: فمن ذلك قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) في سورة الفاتحة، فقد قدّم المفعول به " إياك " على فعل العبادة وعلى فعل الإستعانة دون فعل الهداية قلم يقل إيانا اهد كما قال في الأوليين، وسبب ذلك أن العبادة والإستعانة مختصتان بالله تعالى فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان به. وهذا نظير قوله تعالى (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) الزمر) وقوله (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) البقرة) فقدم المفعول به على فعل العبادة في الموضعين وذلك لأن العبادة مختصة بالله تعالى.
** ومثل التقديم على فعل الإستعانة قوله تعالى (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) ابراهيم) وقوله (على الله توكلنا ربنا، الأعراف) وقوله (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) هود) فقدم الجار والمجرور للدلالة على الإختصاص وذلك لأن التوكّل لا يكون إلا على الله وحده والإنابة ليست إلا إليه وحده.
ولم يقدم مفعول الهداية على فعله قلم يقل: إيانا اهد كما قال (إياك نعبد) وذلك لأن طلب الهداية لا يصح فيه الإختصاص إذ لا يصح أن تقول اللهم اهدني وحدي ولا تهد أحداً غيري أو خُصني بالهداية من دون الناس وهو كما تقول اللهم ارزقني واشفني وعافني. فأنت تسأل لنفسك ذلك ولم تسأله أن يخصك وحدك بالرزق والشفاء والعافية فلا يرزق أحداً غيرك ولا يشفيه ولا يعافيه.