ثم انظر كيف اختار كلمة (الدين) ولم يختر كلمة الجزاء أو الحساب أو النشور ونحوها، وذلك لما تقدم ذكر مواطن الرسالات ناسب ذلك ذكر الدين، لأن هذه أديان، ولأنه قد يُراد بذلك معنى (الدين) علاوة على معنى الجزاء. والمعنى أي شيء يجعلك مكذّباً بصحة الدين بعد هذه الأدلة المتقدمة؟ فالذي خلقك في أحسن تقويم يرسم لك أحسن منهج تسعد به في الدنيا وفي الآخرة. فجمعت كلمة (الدين) معنى الدين ومعنى الجزاء في آن واحد، ولو قال فما الذي يكذبك بالجزاء لم يجمع هذين المعنيين.
فأنت ترى أنه اختار كلمة (الدين) لتقع في موقعها المناسب لها تماماً. ثم قال بعدها:(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)) وأحكم الحاكمين يحتمل أن يكون معناه: أعظم ذوي الحكمة وأحسنهم تدبيراً، ويحتمل أن يكون معناه أقضى القاضين، لأن (حكم) يحتمل أن يكون من الحكمة، ويحتمل أن يكون من القضاء وهو الفصل في المحاكم.
وعلى الوجه الأول يكون المعنى: أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صنيعاً وتدبيراً وأن حكمته بالغة لا حدود لها. وإذا تبيّن أن الله سبحانه أحكم الحاكمين –وهو بيّن- تعيّنت الإعادة والجزاء لأن حكمته تأبى أن يترك الإنسان سدى ولا يحاسب على أعماله، فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يُجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ وهل ذلك إلا قدح في حكمه وحكمته (التبيان ٣٣ وما بعدها، التفسير الكبير ٣٢/١٢) .
وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: أليس الله بأقضى القاضين (روح المعاني ٣٠/١٧٧، مجمع البيان ١٠/٥١٢) فيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) الزمر)