للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان المعتمد أمر بإخراج الناس خاصة وعامة حتى ينظروا إليه على تلك الحال. وقد كان قبل هذا إذا دخل قرطبة اهتزت له وخرج إليه وجوه أهلها وأعيانهم ورؤساؤهم، فالسعيد منهم من يصل إلى تقبيل يده أو يرد عليه ابن عمار السلام، وغيرهم لا يصل إلا إلى تقبيل رِكابه أو طرف ثوبه، ومنهم من ينظر إليه على بعد لا يستطيع الوصول إليه. فسبحان مُحيل الأحوال ومُديل الدول!.

فدخل ابن عمار قرطبة كما ذكرنا، بعد العزة القعساء١, والملك الشامخ، والرياسة الفارعة٢، ذليلًا خائفًا فقيرًا لا يملك إلا ثوبه الذي عليه؛ فسبحان من سلبه ما وهبه، ومنعه ما كان به أمتعه.

وأحبر بعض الموكلين به ما اتفق لهم معه من فرط ذكائه وسرعة فطنته، قال: لما قربنا من قرطبة بحيث يرانا الناس، خرج فارس من البلد يركض يقصدنا، فلما رآه ابن عمار -وكان معتمًّا- أزال العمامة عن رأسه، فجاء الفارس حتى وصل إلينا، فنظر إلى ابن عمار ودخل معنا في الصف فمشى، فسألناه فِيمَ جاء؟ فقال: الذي جئت فيه صنعه هذا الرجل قبل أن أصل إليه! فعلمنا أنه أُرسل ليزيل عمامته.

فأدخل على المعتمد على الله على الحالة التي ذكرت، يرسف في قيوده٣؛ فجعل المعتمد يعدد عليه أياديه ونعمه، وابن عمار في ذلك كله مطرق لا ينبس٤، إلى أن انقضى كلام المعتمد؛ فكان من جواب ابن عمار أن قال: ما أنكر شيئًا مما يذكره مولانا -أبقاه الله-، ولو أنكرته لشهدت علي به الجمادات فضلًا عمن ينطق؛ ولكنى عثرت فأقل، وزللت فاصفح! فقال المعتمد: هيهات؛ إنها عثرة لا تقال! وأمر به فأحدر في النهر إلى إشبيلية، فدُخل به إشبيلية على الحال التي دخل عليها قرطبة، وجعل في غرفة على باب قصر المعتمد المعروف بالقصر المبارك -وهو باقٍ إلى وقتنا هذا- فطال سجنه هناك.

كتبت عنه في هذا السجن قصائد لو توسل بها إلى الدهر لنزع عن جوره، أو إلى الفلك لكف عن دَوْره؛ فكانت رُقًى٥ لم تنجع، ودعوات لم تسمع، وتمائم٦ لم تنفع، فمنها قوله: من الطويل

سجاياك إن عافيتَ أندَى وأسجَحُ ... وعذرك إن عاقبتَ أجلى وأوضحُ٧


١- القعساء: الثابتة.
٢- الفارعة: العالية.
٣- رسف في قيده رَسْفًا ورسيفًا: مشى فيه مشيًا رويدًا.
٤- لا ينبس: لا ينطق، لا تتحرك شفتاه بشيء.
٥- الرقى: جمع رقية: العوذة التي يرقى بها المريض ونحوه.
٦- التمائم: جمع تميمة: ما يعلق في العنق لدفع العين.
٧- السجايا: جمع سجية: الطبيعة والخُلُق. سجح الشيء سجحًا وسجاحةً: سهُل ورفق.

<<  <   >  >>