للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المدينة وقد غلَّقت أبوابها دونه؛ فحاصرها بمن معه أيامًا، فامتنعت عليه ولم يقدر على دخولها؛ فبقي حائرًا لا يدري ما يصنع ولا أين يتوجه، وقد كان بلغ المعتمد قيامه عليه وخلع يده من طاعته, فلم ير إلا الهروب ملجأ, فهرب حتى لحق ببني هود بسرقسطة، فأقام عندهم حتى ثقل عليهم وخافوا غائلته؛ وبغَّضه في عيونهم ما فعل مع صاحبه وولي نعمته، فأخرجوه عن بلادهم.

ولم تزل البلاد تتقاذفه، وملوكها تَشْنأه١، إلى أن وقع في حصن من حصون الأندلس في غاية المنعة يدعى شَقورة٢، كان المتغلب عليه رجل يقال له: ابن مبارك، فأكرم وفادته وأحسن نزله، ثم بدا له بعد أيام فقبض عليه وقيده وجعله في سجنه. فلما رأى ابن عمار ذلك منه قال له: لا عليك أن تكتب إلى ملوك الأندلس بكوني عندك وتعرضني عليهم، فما منهم إلا من يرغب في؛ فمن كان أشدهم رغبة جعل لك مالًا ووجهتَ بي إليه! ففعل ابن مبارك ذلك، فما عرضه على أحد من ملوك الأندلس إلا رغب فيه. وكتب فيمن كتب إلى المعتمد ...

وفي ذلك يقول ابن عمار: من السريع

أصبحتُ في السوق يُنادى على ... رأسي بأنواع من المالِ

والله ما جار على ماله ... من ضمني بالثمن الغالِي!

وفي هذا السجن يقول ابن عمار وقد استدعى نورة٣ يستنظف بها فتعذرت عليه، فاستدعى موسى فأُتي بها، فقال في ذلك: من المجتث

بؤسى شَقُورة عندي ... أربى على كل بوسَى٤

فقدت هارون فيها ... فظَلْتُ أطلب موسَى! ٥

وبعث المعتمد على الله من رجاله من تسلم ابن عمار من يد ابن مبارك، بعد أن بعث إليه بمال وخيل، وأمر المعتمد الذين تسلموا ابن عمار أن يزيدوا في الاحتياط عليه وتقييده. فخرجوا به حتى وافوا قرطبة، ووافق ذلك كون المعتمد بها، فدخلها ابن عمار أشنع دخول وأسوأه، على بغل بين عِدْلي تِبْن، وقيوده ظاهرة للناس. وقد


١- تشنأه: تبغضه.
٢- شقورة: حصن منيع شمالي مرسية، وهو رأس جبل عظيم، يخرج من أسفله نهران، أحدهما يمر بقرطبة، وثانيهما يمر ببلنسية.
٣- النورة: حجر الكلس، أو أخلاط من أملاح الكالسيوم والباريون تستعمل لإزالة الشعر.
٤- البؤسى: البؤس: المشقة، أو الفقر. أربى: زاد.
٥- في البيت إشارة إلى موسى -عليه السلام- وأخيه هارون الذي ناصره وشد أزره. وفي قوله: "أطلب موسى" تورية لطيفة؛ إذ يحتمل المعنى: موسى -عليه السلام-، أو الآلة التي يحلق بها الشعر.

<<  <   >  >>