عمار، فهونوا عليه وقالوا له: إن غلبته كانت عندك سفرة ليس عند ملك مثلها، وإن غلبك فما عساه أن يحتكم؟ وقبحوا عنده إظهار الملك العجز عن شيء يطلب منه، وقالوا له: إن طلب ابن عمار ما لا يمكن, فنحن لك برده عن ذلك. ولم يزالوا به حتى أجاب، وأرسل إلى ابن عمار فجاء ومعه السفرة، فقال له: قد قبلت ما رسمته! فقال له ابن عمار: فاجعل بيني وبينك شهودًا -أسماهم له- فأمر الأدفنش بهم فحضروا، وافتتحا يلعبان. وكان ابن عمار -كما ذكرنا- طبقة بالأندلس؛ لا يقوم له أحد فيها؛ فغلب الأدفنش غلبة ظاهرة لجميع الحاضرين، لم يكن للعلج فيها مطعن. فلما حقت الغلبة قال ابن عمار: هل صح أن لي حكمي؟ قال: نعم، فما هو؟ قال: أن ترجع من ههنا إلى بلادك! فاسود وجه العلج وقام وقعد، وقال لخواصه: قد كنت أخاف من هذا حتى هونتموه عليَّ! في أمثال لهذا القول، وهم بالنكث والتمادي لوجهه، فقبحوا ذلك عليه، وقالوا له: كيف يجمل بك الغدر وأنت ملك ملوك النصارى في وقتك! فلم يزالوا به حتى سكن، وقال: لا أرجع حتى آخذ إتاوة عامين خلاف هذه السنة! فقال ابن عمار: هذا كله لك! وجاءه بما أراد، فرجع وكف الله بأسه، ودفعه بحوله وحسن دفاعه عن المسلمين. ورجع ابن عمار إلى إشبيلية وقد امتلأت نفس المعتمد سرورًا به.
ثم إن المعتمد حدث له أمل في التغلب على مرسية وأعمالها، وهي التي تعرف بـ تُدْمِير١؛ وكانت بيد أبي عبد الرحمن محمد بن طاهر، كان هو المتغلب عليها والمدبر لأمرها، فجهز المعتمد جيوشًا عظيمة، وتكفل له ابن عمار بأخذها وإخراج ابن طاهر عنها؛ فولاه ما تولى من ذلك. وخرج ابن عمار حتى نزل على مرسية، فأخذها وأخرج ابن طاهر عنها. فلحق ابن طاهر حين خرج من مرسية ببني عبد العزيز ببلنسية؛ فكان بها إلى أن مات -رحمه الله-.
ولما تغلب ابن عمار على مرسية دار ملك بني طاهر كما ذكرنا، حدثته نفسه وسول له سوء رأيه أن يستبد بأمره، وأن يضبط تلك البلاد لنفسه؛ فلم يزل يصرف الحيلة في ذلك إلى أن تم له بعضه ودانت له مرسية وأعمالها، وطمع في ملك بلنسية؛ إلى أن قام عليه رجل من أهل مرسية يقال له: ابن رشيق، كان أبوه من عرفاء الجند بها؛ وكان ابن عمار قد خرج لبعض أمره، فدعا ابن رشيق هذا إلى نفسه، وقامت معه العامة وبعض الجند، فسمع ابن عمار بذلك، فجاء يركض حتى أتى
١- تدمير: كورة في شرق الأندلس، قاعدتها مُرْسية، وكان يحكمها قبل الفتح العربي أمير قوطي من قرابة لذريق اسمه: تيودمير، وباسم هذا الأمير سمى العرب هذه الكورة. وقيل: بل سموها تدمير تشبيهًا لها بتدمر من بلاد الشام. وتقع تدمير شرقي قرطبة، وبينهما مسافة سبعة أيام للراكب القاصد. "معجم البلدان، الحموي: ١٩/٢".