للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شوق المعتمد إليه، وضعف عن احتمال الصبر عنه؛ فاستدعاه وعزله عنها واستوزره؛ فكانت حاله معه شبيهة بحال جعفر بن يحيى١ مع الرشيد.

ولم يزل المعتمد يعده لكل أمر جليل، ويؤهله لكل رتبة عالية. وكان ابن عَمَّار مع هذا لا يناط به أمر إلا اضطلع به وكان فيه كالسكة المحماة. واشتهر أمره ببلاد الأندلس حتى كان ملك الروم الأدفنش إذا ذُكر عنده ابن عمار قال: هو رجل الجزيرة! وكان ابن عمار هو الذي رده عن قصد إشبيلية وقرطبة وأعمالهما؛ وذلك أنه خرج في جيوش ضخمة يقصد بلاد المعتمد طامعًا فيها، فخافه الناس، وامتلأت صدور أهل تلك الجهات رعبًا منه، وتيقنوا ضعفهم عن دفاعه؛ فتولى ابن عمار رده بألطف حيلة وأيسر تدبير, وذلك أنه أقام سُفرة شطرنج في غاية الإتقان والإبداع، لم يكن عند ملك مثلها، جعل صورها من الآبنوس٢ والعود الرطب والصندل٣، وحلاها بالذهب، وجعل أرضها في غاية الإتقان؛ فخرج من عند المعتمد رسولًا إلى الأدفنش، فلقيه في أول بلاد المسلمين، أعظم الأدفنش قدومه وبالغ في إكرامه، وأمر وجوه دولته بالتردد إلى خبائه والمسارعة في حوائجه؛ فأظهر ابن عمار تلك السفرة، فرآها بعض خواص الأدفنش، فنقل خبرها إليه. وكان العلج -أعني: الأدفنش- مولعًا بالشطرنج، فلما لقي ابن عمار سأله: كيف أنت في الشطرنج؟ وكان ابن عمار فيه طبقةً عالية، فأخبره بمكانه منه؛ فقال له: بلغني أن عندك سفرة في غاية الإتقان! قال ابن عمار: نعم؛ فقال: كيف السبيل إلى رؤيتها؟ فقال ابن عمار لترجمانه: قل له: أنا آتيك بها على أن ألعب معك عليها، فإن غلبتني فهي لك، وإن غلبتك فلي حكمي! فقال له الأدفنش: هلمها لننظر إليها. فأمر ابن عمار من جاء بها، فلما وُضعت بين يدي العلج صَلَّب وقال: ما ظنت أن إتقان الشطرنج يبلغ إلى هذا الحد! ثم قال لابن عمار: كيف قلت؟ فأعاد عليه الكلام الأول، فقال له الأدفنش: لا ألعب معك على حكم مجهول لا أدري ما هو، ولعله شيء لا يمكنني! فقال ابن عمار سر ما أراده لرجال وثق بهم من وجوه دولة الأدفنش، وجعل لهم أموالًا عظيمة على أن يؤازروه على أمره، ففعلوا. فتعلقت نفس العلج بالسفرة، وشاور خاصته فيما رسمه ابن


١- هو أبو الفضل، جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي: وزير الرشيد العباسي. وُلد ونشأ ببغداد، وكان الرشيد يدعوه: أخي، فانقادت له الدولة، يحكم بما يشاء فلا تُرد أحكامه، إلى أن نقم الرشيد على البرامكة، فقتله في مقدمتهم. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: ١٥٢/٧".
٢- الآبنوس: شجر ينبت في الحبشة والهند، خشبه أسود صلب، ويصنع منه بعض الأدوات والأواني والأثاث.
٣- الصندل: شجر خشبه طيب الرائحة، يظهر طيبها بالدلك والإحراق.

<<  <   >  >>