ثم اتفق أن ولي المعتمد على الله شلب من قبل أبيه، فاستوزر ابن عمار هذا في تلك الولاية، وسلم إليه جميع أموره، فغلب عليه ابن عمار غلبة شديدة، وساءت السمعة عنهما ... فاقتضى نظر المعتضد التفريق بينهما، ونفى ابن عمار عن بلاده حسبما تقدم الإيماء إليه. فلم يزل ابن عمار مغتربًا في أقاصي بلاد الأندلس، إلى أن توفي المعتضد بالله، فاستدعاه المعتمد، وقربه أشد تقريب، حتى كان يشاركه فيما لا يشارك فيه الرجل أخاه ولا أباه.
وله معه أيام كونهما بشلب خبر عجيب؛ وذلك أن المعتمد استدعاه ليلة إلى مجلس أنسه، على ما كانت العادة جارية به، إلا أنه في تلك الليلة زاد في التحفِّي١ به والبر له على المعتاد، فلما جاء وقت النوم أقسم المعتمد عليه: لتضعن رأسك معي على وساد واحد! فكان ذلك. قال ابن عمار: فهتف بي هاتف في النوم يقول: لا تغتر أيها المسكين؛ إنه سيقتلك ولو بعد حين! قال: فانتبهت من نومي فَزِعًا, وتعوذت, ثم عدت, فهتف بي الهاتف على حالته الأولى, فانتبهتُ، ثم عدت، فسمعته ثالثة؛ فانتبهت فتجردت من أثوابي والتففت في بعض الحصُر، وقصدت دهليز القصر مستخفيًا به، وقد أزمعت على أني إذا أصبحت خرجت مستخفيًا حتى آتي البحر فأركبه وأقصد بلاد العدوة فأكون في بعض جبال البربر حتى أموت. فانتبه المعتمد فافتقدني فلم يجدني، فأمر بطلبي، فطُلبتُ له في نواحي القصر، وخرج هو بنفسه يتوكأ على سيفه والشمعة تُحمل بين يديه؛ فكان هو الذي وقع علي؛ وذلك أنه أتى دهليز القصر يفتقد الباب هل فتح؛ فوقف بإزاء الحصير الذي كنت فيه، فكانت مني حركة فأحس بي، وقال: ما هذا يتحرك في هذا الحصير؟ ثم أمر به فنُفض، فخرجت عريانًا ليس علي إلا السراويل! فلما رآني فاضت عيناه دموعًا وقال: يا أبا بكر، ما الذي حملك على هذا؟ فلم أر بُدًا من أن صدقته، فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها، فضحك وقال: يا أبا بكر، أضغاث أحلام، هذه آثار الخُمار، ثم قال لي: وكيف أقتلك؟ أرأيت أحدًا يقتل نفسه؟ وهل أنت عندي إلا كنفسي؟ فتشكر له ابن عمار ودعا له بطول البقاء، وتناسى الأمر فنسيه، ومرت على ذلك الأيام والليالي، إلى أن كان من أمره ما سيأتي الإيماء إليه، فصدقت رؤيا ابن عمار، وقتل المعتمد نفسه كما قال!.
ولما أفضى الأمر إلى المعتمد كما ذكرنا، سأله ابن عمار ولاية شلب، وهي كانت بلده ومنشأه كما تقدم؛ فأجابه المعتمد إلى ذلك وولاه إياها أَنْبَهَ ولاية؛ جعل إليه جميع أمورها، خارجها وداخلها. فاستمرت ولاية ابن عمار عليها إلى أن اشتد