للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويهنيه إن متُّ السُّلوُ فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرحُ١

وبين ضلوعي من هواه تميمة ... ستنفع لو أن الحمام يُجلّحُ٢

ولما بلغت المعتمد هذه القصيدة وأنشدت بين يديه، كان بحضرته رجل من البغداديين، فجعل يزري على هذا البيت: وبين ضلوعي ... ويقول: ما أراد بهذا المعنى؟ فكان من جواب المعتمد -رحمه الله- أن قال: أما لئن سلبه الله المروءة والوفاء، لما أعدمه الفطنة والذكاء؛ إنما نظر إلى بيت الهذلي٣ من طرف خفي، وهو: من الكامل

وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كل تميمة لا تنفعُ! ٤

ولم يزل ابن عمار هذا بسجن المعتمد، إلى أن قتله صبرًا في شهور سنة ٤٧٩.

وتلخيص خبر قتله، أنه لما طال سجنه كتب إليه بالقصيدة التي تقدم إنشادها، فأدركت المعتمدَ بعضُ الرقة، فوجه إليه ليلًا وهو في بعض مجالس أنسه، فأتي به يرسف في قيوده، فجعل المعتمد يعدد مننه عليه وأياديه قِبَله، فلم يكن لابن عمار جواب ولا عذر، غير أنه أخذ في البكاء، وجعل يترقق للمعتمد ويمسح عِطْفيه ويستجلب من الألفاظ كل ما يقدر أنه يزرع له الرأفة في قلب المعتمد؛ فتم له بعض ما أراد من ذلك، وعطفت المعتمد عليه سابقته وقديم حرمته؛ فقال له قولًا يتضمن العفو عنه تعريضًا لا تصريحًا؛ وأمر برده إلى محبسه؛ فكتب ابن عمار من فوره بما دار له مع المعتمد إلى ابنه الراضي بالله، فوافاه الكتاب وبحضرته قوم كانت بينهم وبين ابن عمار إِحَن٥ قديمة؛ فلما قرأ الراضي الكتاب قال لهم: ما أرى ابن عمار إلا سيتخلص؛ فقالوا له: ومن أين علم مولانا ذلك؟ فقال: هذا كتاب ابن عمار يخبرني فيه أن مولانا المعتمد قد وعده بالخلاص؛ فأظهر القوم الفرح وهم يبطنون غيره؛ فلما قاموا من مجلس الراضي نشروا حديث ابن عمار أقبح نشر، وزادوا فيه زيادات قبيحة صُنت هذا الكتاب عن ذكرها. فبلغ المعتمد ذلك، فأرسل إلى ابن عمار


١- السلو: النسيان مع طيب نفس. شوق مبرح: شديد.
٢- جلح: سار سيرًا شديدًا، وجلح فلان: أقدم ومضى.
٣- الهذلي: هو أبو ذؤيب، خويلد بن خالد بن محرث الهذلي: شاعر فحل مخضرم، سكن المدينة، واشترك في الغزو والفتوح، وهلك أبناؤه الخمسة بالطاعون في مصر. توفي نحو ٢٧هـ/٦٤٨م. "خزانة الأدب، البغدادي -صادر-: ٢٠٣/١"
٤-أنشب الشيء في غيره: أعلقه به. ألفاه: وجده وصادفه. والبيت في جمهرة أشعار العرب للقرشي: جـ ١٨٥/٢.
٥- الإحن: الأحقاد.

<<  <   >  >>