للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا يتعدى امرؤ جِبِلَّته ... قد قُسمت في الطبيعة الرتبُ١

ولم يزل أبو بكر هذا يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار وينبهه عليهم، ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نبهه على أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رُشْد؛ فمن حينئذ عرفوه ونبه قدره عندهم.

أبو الوليد بن رشد*

أخبرني تلميذه الفقيه الأستاذ أبو بكر بُنْدُود بن يحيى القرطبي قال: سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما؛ فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسَلَفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري. فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء -يعني الفلاسفة- أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف؛ فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة؛ ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل. ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء؛ فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم؛ فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له. ولم يزل يبسُطُني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك؛ فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.

وأخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه قال: استدعاني أبو بكر بن طفيل يومًا فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا لقرب مأخذها على الناس؛ فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به؛ لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة. وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كُبْرة سنى واشتغالي بالخدمة وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.


١- الجبلة: الخِلْقة، الحالة التي فطر عليها.
* ترجمته في: قضاة الأندلس: ١١١؛ شذرات الذهب: ٣٢٠/٤؛ الأعلام: ٣١٨/٥؛ معجم المؤلفين: ٣١٣/٨؛ كشف الظنون: ٦٣، ٥١٢، ١٢٦١؛ إيضاح المكنون: ١٩٢/٢، ٣٢٥، ٣٤٤، ٥٨٥.

<<  <   >  >>