للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقصده، نظر في أمره، فلم ير له طاقة بدفاعه ولا نهضة لمقاومته؛ فلم يكن له هم إلا أن جمع وجوه دولته وأعيان جنده وذوي الغناء من قواده وسائر أتباعه، ودخل بهم مدينة شنترين؛ واثقًا بحصانتها وشدة منعتها؛ هذا بعد أن ملأها أقواتًا وسلاحًا وجميع ما يحتاج إليه، وجلل أسوارها مقاتلة معهم الدَّرَق١ والقسي والحراب؛ إلى غير ذلك مما يحتاج إليه.

فنزل عليها أبو يعقوب، فألفاها كما ذكرنا: قد استعد أهلها بكل ما يظنونه نافعًا لهم ودافعًا عنهم؛ وهذه المدينة على نهر عظيم من أنهار الأندلس المشهورة، يسمى تاجو؛ فبالغ أبو يعقوب -كما ذكرنا- في التضييق عليها وانتساف معايشها وقطع المواد والمدد عنها؛ فما زاد ذلك أهلها إلا صرامة٢ وشدة وجَلَدًا٣؛ فخاف المسلمون هجوم البرد -وكان في آخر فصل الخريف- وخافوا أن يعظم النهر فلا يستطيعوا عبوره وينقطع عنهم المدد؛ فأشاروا على أمير المؤمنين بالرجوع إلى إشبيلية، فإذا كان وجه الزمان عادوا إليها أو بعث من يتسلمها. وصوروا له أنها في يده، لا يمنعه منها مانع. فقبل ذلك منهم ووافقهم عليه، وقال: نحن راحلون غدًا إن شاء الله. ولم ينتشر هذا القول كل الانتشار؛ لأنه كان قاله في مجلس الخاصة؛ فكان أول من قوض خباءه وأظهر الأخذ في أهبة الرحيل، أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الرحمن المعروف عندهم بـ المالقي -وقد تقدم ذكر أبيه في قضاة عبد المؤمن- وكان أبو الحسن هذا خطيبهم ومعتبرًا عندهم، يدعى خطيب الخلافة. وكان له حظ جيد من الفقه ومعرفة الحديث، وقسم وافر من قرض الشعر وصناعة الكتابة. فلما رآه الناس قوض خباءه قوضوا أخبيتهم ثقة به؛ لمكانه من الدولة ومعرفته بأخبارها؛ فعبر في تلك العشية أكثر العسكر النهر يريدون التقدم خشية الزحام وحرصًا على أخذ جيد المواضع واختيار المنازل؛ ولم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين.

وبات الناس يعبرون الليل كله وأمير المؤمنين لا علم له ذلك؛ فلما رأى الروم عبور العساكر وبلغهم من جهة عيونهم الذين بالعسكر ما عزم عليه أبو يعقوب والمسلمون من الرحيل، ورأوا انفضاض الأجناد وافتراق أكثر الجموع، خرجوا منتهزين للفرصة التي أمكنتهم، في خيل كثيفة؛ فحملوا على من يليهم من الناس، فانهزموا أمامهم، حتى بلغوا الخباء الذي فيه أمير المؤمنين أبو يعقوب؛ فقتل على


١- الدرق: جمع الدَّرَقة: التُّرْس من جلد, ليس فيه خشب.
٢- الصرامة: القوة والمضي في الأمور، يقال: صَرُم فلان صرامة، وصرومة: كان جلدًا ماضيًا في أمره.
٣- الجلد: القوة، أو الصبر على المكروه.

<<  <   >  >>