للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأندلس؛ وانتهى أن قتل قاضي مرسية وخطيبها المعروف بـ ابن أبي جمرة، وقيل: إنه وكزه برِئَاس السيف١ في صدره وكزة مات منها بعد أيام.

فاستحثت هذه الأخبار أمير المؤمنين وأزعجته، فعجل من بجاية إلى فاس سبع عشرة مرحلة؛ وهذا نهاية ما يكون من سرعة السير لمثله. فلما سمع بقدومه أبو الربيع سليمان وعمر المذكوران، خرجا يلتقيانه؛ فعبر عمر البحر. وجاء سليمان بمن معه من تادلا للقائه أيضًا؛ فأما عمر فلقيه بالقرب من مدينة مكناسة، فلما رآه نزل عن دابته على العادة ليسلم عليه، فلما قرب منه لم تدر بينهما كلمتان حتى أمر بالقبض عليه وتقييده، وحمل بعد التقييد إلى مدينة سَلا؛ ولقيه سليمان عمه، ففعل به مثل ذلك؛ وسار حتى نزل مدينة سلا. وفصل عنها بعد أن وكل بهما من يقوم عليهما، وأثقلهما بالحديد؛ وسار حتى بلغ مراكش، فكتب إلى القائم عليهما بقتلهما وتكفينهما والصلاة عليهما ودفنهما؛ فقتلهما صبرًا، ودفنهما، وكتب يعلمه بذلك؛ فبلغني أنه قال له: بنيتُ قبريهما بالكدان والرخام، وجعل يذكر حسنهما، فكتب إليه: ما لنا ولدفن الجبابرة، إنما هما رجلان من المسلمين، فادفنهما كيف يدفن عامة المسلمين.

وبعد قتله هذين الرجلين هابه بقية القرابة وأُشربت قلوبهم خوفه٢، بعد أن كانوا متهاونين بأمره محتقرين له؛ لأشياء كانت تظهر منه في صباه توجب ذلك. وكان قتله هذين الرجلين في سنة ٥٨٣، وأظهر بعد ذلك زهدًا وتقشفًا وخشونة ملبس ومأكل.

وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث صِيت، وقامت لهم سوق، وعظمت مكانتهم منه ومن الناس. ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد، ويكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة.

دعوة أبي يوسف إلى الأخذ بالكتاب والسنة

وفي أيامه انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، ففعل ذلك، فأحرق منها جملة في سائر البلاد، كمدوَّنة سحنون٣، وكتاب ابن يونس٤، ونوادر أبي


١- رئاس السيف: مقبضه، أو قائمه.
٢-أشرب قلبه خوف فلان: أي: خالط الخوف قلبه، أو حل الخوف محل الشراب.
٣- هو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بـ "سحنون": قاضٍ، فقيه، زاهد. ولي القضاء في القيروان، وتوفي فيها سنة ٢٤٠هـ/٨٥٤م. "تاريخ قضاة الأندلس، النباهي: ٢٨".
٤- ابن يونس: لعله أبو المظفر، عبيد الله بن يونس الأزجي البغدادي، صاحب كتاب "أصول الدين والمقالات"، المتوفي سنة ٥٩٣هـ/١١٩٧م.

<<  <   >  >>