للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شاء الله مورد منها ما لا يخل بالشرط الذي التزمته، ولا يخرج عن الحد الذي رسمته، حسبما بقي على خاطري من ذلك؛ لأني كنت في حداثة سني قد صرفت عنايتي إلى أخبار ابن عمار هذا مع المعتمد، لما تضمنتْه من الآداب. وقد فتشت خِزانة حفظي فلم ألف١ فيها إلا نبذة يسيرة، وأنا موردها إن شاء الله عز وجل.

فابن عمار هذا هو محمد بن عمار، يكنى أبا بكر، أصله من شِلْب، من قرية من أعمالها يقال لها شنبوس. مولده ومولد آبائه بها. كان خامل٢ البيت ليس له ولا لأسلافه في الرياسة في قديم الدهر ولا حديثه حظ، ولا ذُكِرَ منهم بها أحد. ورد مدينة شلب طفلًا فنشأ بها، وتعلم علم الأدب على جماعة، منهم: أبو الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم٣. ثم رحل إلى قرطبة فتأدب بها، ومهر في صناعة الشعر، فكان قُصَارَاهُ التكسب به، فلم يزل يجول في الأندلس مسترفدًا لا يخص بمدحه الملوك دون غيرهم، بل لا يبالي ممن أخذ ولا من استعطف من ملك أو سُوقة، وله في ذلك خبر ظريف:

وذلك أنه ورد في بعض سفراته شلب، لا يملك إلا دابة لا يجد علفها، فكتب بشعر إلى رجل من وجوه أهل السوق، فكان قدره عند ذلك الرجل أن ملأ له المخلاة شعيرًا ووجه بها إليه؛ فرآها ابن عمار من أجل الصلات وأسنى الجوائز. ثم اتفق أن علت حال ابن عمار وساعده الجد ونهض به البخت، وانتهى أمره أن ولاه المعتمد على الله مدينة شلب وأعمالها، أول ما أفضى الأمر إليه، فدخلها ابن عمار في موكب ضخم وجملة عبيد وحشم، وأظهر نخوة لم يظهرها المعتمد على الله حين وليها أيام أبيه المعتضد بالله؛ فكان أولَ شيء سأل عنه، الرجلُ صاحبُه صاحبُ الشعير، فقال: ما صنع فلان، أهو حي؟ قالوا: نعم؛ فأرسل إليه بمخلاته بعينها بعد أن ملأها دراهم، وقال لرسوله: قل له: لو ملأتها بُرًّا لملأناها تبرًا.

ولم يزل ابن عمار على الحال التي ذكرناها، من التقلب في بلاد الأندلس للاستجداء والاستعطاف، إلى أن ورد على المعتضد بالله أبي عمرو، فامتدحه بقصيدته المشهورة التي أولها: من الكامل

أَدِرِ الزجاجة فالنسيم قد انبرى ... والنجم قد صرف العِنان عن السُّرَى٤


١- لم ألف: لم أجد.
٢- الخامل: يقال: خَمَل الرجل: خفي فلم يُعرف, ولم يُذكر.
٣- هو يوسف بن عيسى بن سليمان النحوي، المعروف بالأعلم، ويكنى أبا الحجاج: عالم باللغة والأدب والشعر، من أهل شنتمرية. توفي سنة ٤٧٦ هـ بإشبيلية. "الصلة، ابن بشكوال: ٥٢٤".
٤- انبرى: عرض. العنان: سير اللجام الذي تُمسك به الدابة، استعاره للنجم. وصرف الشيء صرفًا: رده عن وجهه. السرى: السير في الليل.

<<  <   >  >>