ثم لما انتشر الإسلام، واتسعت البلد، وشاع الابتداع، وتفرقت الصحابة بالأمصار، ومات كثير منهم في الحروب وغيرها، وقل الضبط لضعف ملكة الحفظ، دعت الحاجة إلى تدوين الأحاديث وكتابتها، فكتب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى إلى عامله، وقاضيه على المدينة أبي بكر بن حزم:"انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء"، وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وكذلك كتب إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه بذلك محمد بن شهاب الزهري. ومن هذا الوقت أقبل العلماء على كتابة السنن وتدوينها، وشاع ذلك في الطبقة التي تلي طبقة الزهري. فكتب ابن جريج بمكة "١٥٠"، وابن إسحاق "١٥١"، ومالك "١٧٩" بالمدينة، والربيع بن صبيح "١٦٠"، وسعيد بن أبي عروبة "١٥٦"، وحماد بن سلمة "١٧٦" بالبصرة، وسفيان الثوري "١٦١" بالكوفة، والأوزاعي "١٥٦" بالشام، وهشيم "١٨٨" بواسط، ومعمر "١٥٣" باليمن، وجرير بن عبد الحميد "١٨٨"، وابن المبارك "١٨١" بخراسان.
كان هؤلاء جميعا في عصر واحد، ولا يدري أيهم أسبق إلى جمع الحديث، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، وكانت طريقتهم في جمع الحديث، أنهم يضعون الأحاديث المتناسبة في باب واحد، ثم يضمون جملة من الأبواب بعضها إلى بعض، ويجعلونها في مصنف واحد، ويخلطون الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، على خلاف ما كان يصنعه أهل القرن الأول كالزهري، فإنهم كانوا