إن المكانة العلمية والأدبية التي تمتعت بها المدينة تجعل من الصعوبة بمكان أن تتقدمها أية بلدة أخرى حتى أن ابن الجوزي "القرن السادس الهجري" أراد أن يتخذ بغداد نقطة البداية في ترتيب كتابه "صفة الصفوة" لأنها أولى من غيرها إلا أنه "لما لم يمكن تقديمها على المدينة ومكة لشرفهما"١ فإنه بدأ بالمدينة ثم ذكر مكة قبل بغداد.
أما بقية مدن الحجاز فقد كان دورها في الرواية ضئيلا إذا قيست بالمدينة، وتبرز بينها مكة بسبب مركزها الديني واجتماع العلماء فيها في مواسم الحج حيث يعقدون بعض الحلقات العلمية خلال هذا الموسم كما برز بعض الموالي من أهلها في العلم والرواية. إن نشاط الرواية يظهر بصورة قوية تكاد تضاهي المدينة في العراق وعلى وجه التحديد في الكوفة والبصرة فقد استقر فيهما عدد كبير من الصحابة فيهم من اشتهر بقراءة القرآن مثل أبي موسى الأشعري وفيهم من عرف بالفقه مثل عبد الله بن مسعود الذي أسس مدرسة في الكوفة برز من بين تلاميذها عدد من جهابذة العلم، وكان للدور السياسي الذي لعبته الكوفة في القرن الأول الهجري خاصة أثر كبير في تنشيط الرواية فيها فالنزاع السياسي بين دمشق والكوفة جعل الحاجة إلى الرواية قوية لدعم وجهات نظر المتنازعين في عصر كان أهله يهتمون كثيرا بموافقة أعمالهم للشرع الذي كان يعني آنذاك نصوص القرآن والحديث.
أما دور البصرة في الرواية فهو يلي دور الكوفة فقد نزلها صحابة لا يقل عددهم عمن نزلوا الكوفة، ولكن عدد من اشتهر بالرواية من التابعين من أهل البصرة أقل من عددهم في الكوفة. فقد ذكر ابن سعد ما ينيف على الخمسمائة تابعي ممن عرفوا بالرواية من أهل الكوفة ولم يزد عدد التابعين الذين عرفوا بالرواية من أهل البصرة على المائتين إلا قليلا، ولعل في ذلك ما يلقي ضوءا على درجة شيوع العلم وكثرة العلماء في المدينتين.