للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وبيانه: أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها} يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة، غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا فيما تظهره بقصد منها، فابن مسعود يقول: هو ثيابها، أي: جلبابها.

وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها.

فمعنى الآية حينئذ: إلا ما ظهر عادة بإذن الشارع وأمره. ألست ترى أن المرأة لو رفعت من جلبابها

حتى ظهر من تحته شيء من ثيابها وزينتها ـ كما يفعل ذلك بعض المتجلببات السعوديات ـ أنها تكون قد خالفت الآية باتفاق العلماء، فقد التقى فعلها هذا مع فعلها الأول، وكلاهما بقصد منها، لا يمكن إلا هذا، فمناط الحكم إذن في الآية ليس هو ما ظهر دون قصد من المرأة ـ فهذا مما لا مؤآخذة عليه في غير موضع الخلاف أيضاً اتفاقاً ـ وإنما هو فيما ظهر دون إذن من الشارع الحكيم، فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها سواء كان كفاً أو وجهاً أو غيرهما، فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد، لأنه مأذون فيه كإظهار الجلباب تماماً كما بينتُ آنفاً.

فهذا هو توجيه تفسير الصحابة الذين قالوا: إن المراد بالاستثناء في الآية الوجه والكفان، وجريان عمل كثير من النساء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده كما سترى في النصوص الآتية المتواترةمعنى.

ويعود الفضل في التنبه لهذا التوجيه ـ بعد الله تعالى ـ إلى الحافظ أبي الحسن بن القطان الفاسي

رحمه الله تعالى في كتابه القيم الفريد الذي أطلعني الله عليه وأنا أهيئ مقدمة هذه الطبعة الجديدة، ألا وهو: ((النظر في أحكام النظر))، فقد تكلم فيها بعلم واسع ونظر ثاقب، على كل مسائله، ومنها ما نحن فيه، فنبهني على ما أشرت إليه قوله فيه:

((وإنما نعني بالعادة هنا عادة من نزل عليهم القرآن، وبلَّغوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرع، وحضروا به خطاب المواجهة، ومن لزم تلك العادة بعدهم إلى هلم جرَّا، لا لعادة النسوان وغيرهم المبدين أجسادهم وعوراتهم)).

ثم قال ابن القطان:

((ويتأيد المعنى الذي حملنا عليه الآية من أن الظاهر هو الوجه والكفان بقوله تعالى المتقدم متصلاً به: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، فإنه يفهم منه أن القِرَطَةَ قد يعفيهنَّ عند بدو وجوههن عن تعاهد سترها فتنكشف، فأمرن أن يضربن بالخمر على الجيوب حتى لا يظهر شيءمن ذلك، إلا الوجه الذي من شأنه أن يظهر في حين التصرف، إلا أن يستر بقصدٍ وتكلف مشقة، وكذلك الكفان، وذكر أهل التفسير أن سبب نزول الآية هو أن النساء كن وقت نزولها إذا غطين رؤوسهن بالخمر يسدلنها خلفهن كما تصنع النَّبَطُ، فتبقى النحور والأعناق باديةً، فأمر الله سبحانه بضرب الخمر على الجيوب ليستر جميع ما ذكر، وبالغ في امتثال هذا الأمر نساء المهاجرين والأنصار فزدن فيه تكثيف الخمر ... )).

<<  <   >  >>