" ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر، فيقال:
لمَّا كان الكفّارُ قسمين: قسم محضٌ كفره وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين: قسم لاعلم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب، وقسم له كتاب يعلم الحقّ منه، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعمُّ قسميه: العالم والجاهل، فقال - عز وجل - " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(البقرة:٦)
ثُمَّ أتبعه قسم المنافقين؛لأنَّهم أهَمُّ بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين , وإظهارهم انّهم منهم ليكونوا من خذاعهم على حذر, فقال - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}(البقرة:٨)
ولمََّا فرغَ من ذلك استتبعه من الأمر بالوحدانية، وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك الغوائل والاستعطاف بذكر النعم شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنّه يعرف الحقَّ ويخفيه فالمنافق ألفَ الكفرَ، ثُمَّ أقلع عنه، وأظهر التلبس بالإسلام، واستمرَّ على الكفرِ باطنًا، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل دعوته، فلمَّا دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به، وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاءِ المعرفةِ التي هي مبدأُ الإيمان، فحالُهم كما ترى أشبه بحال المنافقين، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثيرٍ من القرآنِ.
وأخَّرهم لطولِ قصَّتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم، فإنًَّ مجادلة العالمِ ترسل في ميادين العلمِ أفراسَ الأفكار، فتسرع في أقطار الأوطار حتّى تصير كالأطيار وتأتي ببديع الأسرار.