الإنسان فلا , ولكن لو وصلهم لكان فضلاً , ويدل على أهمية صلة الرحم ما جاءت به الشريعة من النهي الشديد عن التفاخر بالأنساب؛ لأنها من أعمال الجاهلية، ومعلوم أن تعلم الأنساب والاشتغال بها مظنة للتفاخر بها، لكن هذه المفسدة المظنونة ملغاة؛ لتحقيق مصلحةٍ أعظم وهي صلة الرحم، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتعلم النسب لأجل ذلك وقال:"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم"، وفي روايةٍ:"اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم؛ فإنه لا قرب لرحمٍ إذا قطعت وإن كانت قريبةً، ولا بعد لها إذا وصلت وإن كانت بعيدةً". رواه الحاكم وصححه.
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على المنبر:"تعلموا أنسابكم ثم صلوا أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء، ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم لأوزعه ذلك عن انتهاكه". وقد قال علي -رضي الله عنه-: "عشيرتك هم جناحك الذي بهم تحلق، وأصلك الذي به تتعلق، ويدك التي بها تصول، ولسانك الذي به تقول، هم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك".
وإليك هذه القصة التي تنضح نبلاً وشرفًا:
حُكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف –وكان أجود قريش في زمانه- قالت: يا طلحة: ما رأيت قومًا ألأمَ من إخوانك!! قال: ولمَ ذاك؟! قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، وإذا أعسرت تركوك؟! قال:"هذا والله من كرمهم؛ يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم".
فانظر كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً، وهذا محض الكرم ولباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، إنه تغافل مع فطنة، وتآلف صادر عن وفاء، وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.
أخي القارىء الكريم اعلم أنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا، لقد فعل إخوة يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، قال:(لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ) يوسف:٩٢.
غُضَّ عن الهفواتِ، واعفُ عن الزّلاّت، وأقِلِ العثرات، تجنِ الودَّ والإخاء واللينَ والصفاء، وتتحقَّق فيك الشهامةُ والوفاء. داوِم على صِلة الرّحم ولو قطعوا، وبادِر بالمغفرة وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم في قطعِ رحمِك منهم، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء، وجانب الشحَّ فإنّه من أسباب القطيعة، قال عليه الصلاة والسلام:((إيّاكم والشّحَّ؛ فإنّ الشحّ أهلك من كان قبلكم؛ أمرهم بالبُخل فبخلوا، وأمرهم بالظّلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا)) متفق عليه.
إنّ مقابلةَ الإحسانِ بالإحسان مكافأةٌ ومجازاة، ولكن الواصلَ من يَتفضَّل على صاحبِه، ولا يُتَفضّل عليه، قال عليه الصلاة والسلام:((ليسَ الواصل بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قطعَت رحمُه وصَلها)) رواه البخاري. قيل لعبد الله بن مُحَيريز: ما حقّ الرّحم؟ قال:"تُستَقبَل إذا أقبَلت، وتُتْبَع إذا أدبَرت"، وجاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلهم