هذا الجزء بما فسرناه هو ما ذهب إليه جميع العلماء بلا خلاف , وأما الجزء الثاني من الآية وهو قوله (يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فإن أهل العلم اختلفوا في تفسيرها فمنهم من قال أن معنى الآية أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله سواءً كانوا مُحاربين أو مسالمين. ومن العلماء من قال أن الآية على ظاهرها لكن من حاد الله ورسوله هو الكافر المحارب دون المسالم وقال آخرون أن المراد بالآية هو المودة الدينية ولا علاقة لها بالمودة الطبيعية وقال آخرون أن الموادة لا تعني المحبة وفرقوا بينهما وقالوا أن الموادة هي الحب الكثير الذي يحمل على فعل المحرم أو ترك الواجب أو بمعنى آخر هو تقديم محبة المحاد لله ورسوله محبة طبيعية على محبة الله ورسوله في حال التعارض. وبهذا يتبين لك أن ما ذهبنا إليه هو الحق بإذن الله , ودليل ذلك أن الآية تتكون من جزأين , جزء مُحكم وجزء متشابه والراسخون في العلم والذين يبتغون الحق هم من يردَون المتشابه إلى المُحكم فعلى المسلم أن يحقق الإيمان بالله واليوم الآخر وفي ذات الوقت يُقيم شرع الله فيمن له حق واجب من الصحبة بالمعروف كوالديه المشركين وزوجته الكتابية وألا يُشغل نفسه في قضية بغضهم من عدمه فقد كفاه الله ما أهمه في حال تحقيقه للإيمان , والذي ينبغي من جهة الكمال أن يكون تعامل المرء مع الكفار تعاملاً ظاهرياً بالعدل ولا يكون في قلبه ميل لهم ولا مودة لهم خروجاً من خلاف أهل العلم، وإنما إذا أحسنوا إليه فإنه يُحسن إليهم, وليفعل المسلم ما هو أصلح لقلبه والله تعالى أعلم.
تنبيه مهم: اعلم أن معاشرة الكافر والفاسق المسلم ممن لهم حق واجب في الصلة والعشرة تختلف عن معاشرة غيرهم ويُغتفر فيها مالا يُغتفر في غيرها ويدلك على هذا أن بعض أهل العلم ذكر أنه إذا طلب أحد الوالدين الكافرين من ولدهما إيصالهما إلى الكنيسة لعجزه عن الوصول إليها، فالواجب على الولد إيصاله إليها، نص على هذا فقهاء المالكية , وقال ابن عاشور قال فقهاؤنا:(إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحل للمسلم أن يُشايع أحد أبويه عليه) , وذكر بعض أهل العلم أن الزواج بالكتابية يستلزم أيضاً السماح لها بالبقاء على دينها إن شاءت وعدم الوقوف في وجه أدائها لشعائر هذا الدين إن أرادت وأن لا تُجبر على الإسلام ولا تدخل فيه إلا برضاها وهذا من المعلوم من الدين ضرورة لا يماري فيه إلا جاهل, وقرر أهل العلم بأن الوالدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس الأب كالأجنبي وكذلك ألحقوا بهما الأزواج وقالوا إذا رأى الولد مُنكراً من والديه يأمرهما فإن قبلا فبها وإن كرها سكت عنهما , وأقوال أهل العلم في هذا الباب كثيرة وهي إن دلت على شىء فهي تدل على ما قررناه ابتداءً من أن معاشرة الكافر والفاسق المسلم ممن له حق واجب في الصلة والعشرة تختلف عن معاشرة غيرهم ويُغتفر فيها مالا يُغتفر في غيرها.
وختاماً: هذا ما من الله به، ثم ما وسعه الجهد، وسمح به الوقت، وتوصل إليه الفهم المتواضع، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن فيه خطأ أو نقص فتلك سنة الله في بني الإنسان، فالكمال لله وحده، والنقص والقصور واختلاف وجهات النظر من صفات الجنس البشري، ولا أدعي الكمال، وحسبي أني قد حاولت التسديد والمقاربة، وبذلت الجهد ما استطعت بتوفيق الله - تعالى-، وأسأل الله أن ينفعني بذلك، وينفع به جميع المسلمين؛ فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.