أما حديث ابن القيم عن الحمام وبدائع صنع الله فيه، وعجيب هدايته إلى ما هداه إليه فحديث طويل ممتع، يدل على أن التفكير في خلق الله منهج أخذ به أهل العلم أنفسهم تحقيقاً لأمر الله لعباده، وفي هذا يقول ابن القيم:
وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية، حتى قال الشافعي: أعقل الطير الحمام، وبُردُ الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب، وربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد، فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره؛ لأنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها، وتنهي الأخبار والأغراض، والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول.
والقيمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناء عظيماً، فيفرقون بين ذكورها وإناثها وقت الفساد، وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها، والإناث عن ذكورها، ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها، ويتعرفون صحة طرقها ومحلها، ولا يأمنون أن تفسد الأنثى ذكراً من عرض الحمام فتعتريها الهجنة، والقيمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها.
والقيمون لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية الاعتناء بحث إذا رأوا حماماً ساقطاً لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها، ويعظمون صاحب التجربة والمعرفة، وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له.
ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها، ويقولون: هو أحن إلى بيته لمكان أنثاه، وهو أشد متناً، وأقوى بدناً وأحسن اهتداء، وطائفة منهم يختار لذلك الإناث، ويقولون: الذكر إذا سافر وبعد عهده حنّ إلى الإناث وتاقت نفسه إليهن، فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فلا يصبر عنها، فيترك السير، ومال إلى قضاء وطره منها.
وهدايته على قدر التعليم والتوطين، والحمام موصوف باليُمْن والإلف