وقد وضح تقي الدين معنى كون البدعة لا يتاب منها فقال في "مجموع الفتاوى"(١٠/ ٩): (ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه. أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله. فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال ... ).
٦ - ولذلك فإن جنس البدعة أعظم من جنس المعصية، ذلك أن فتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة، وهذا كله إنما يطرد ويستقيم إذا لم يقترن بأحدهما قرائن وأحوال تنقله عن رتبته.
ومن الأمثلة على هذه القرائن والأحوال: أن المخالفة - معصية كانت أو بدعة - تعظم رتبتها إذا اقترن بها المداومة والإصرار عليها أو الاستخفاف بها أو استحلالها أو المجاهرة بها أو الدعوة إليها ويقل خطرها إذا اقترن بها التستر والاستخفاء أو عدم الإصرار عليها أو الندم والرجوع عنها.
ومن الأمثلة على هذه القرائن أيضًا: أن المخالفة في ذاتها تعظم رتبتها بعظم المفسدة، فما كانت مفسدته ترجع إلى كلي في الدين فهو أعظم مما كانت مفسدته ترجع إلى جزئي فيه، وكذلك: ما كانت مفسدته متعلقة بالدين فإنه أعظم مما كانت مفسدته متعلقة بالنفس.
والحاصل أن الموازنة بين البدع والمعاصي لا بد فيها من مراعاة الحال والمقام، واعتبار المصالح والمفاسد، والنظر إلى مآلات الأمور؛ فإن التنبيه على خطورة البدع والمبالغة في تعظيم شأنها ينبغي ألا يفضي - في الحال أو المآل - إلى الاستخفاف بالمعاصي والتحقير من شأنها، كما ينبغي أيضًا ألا يفضي التنبيه على خطورة المعاصي