لا يوجد تعارض حقيقي بين ذات كل من المصالح المرسلة والقياس، وإنما يوجد تعارض في نظر المجتهد، كما تخيله وبدا لرأيه من كون هذا الأمر مصلحة مرسلة أو قياس، إذ لا يطلق على أي منهما كونه مصلحة مرسلة أو قياسا في حقيقة الأمر إلا إذا سَلِمَ كل منهما من عوارض الإبطال والإلغاء.
والحاصل أن المصلحة المرسلة لا عبرة بها إذا عارضها قياس صحيح.
٣ - أن تكون فيما يعقل معناه من الوسائل والعادات والمعاملات ونحو ذلك ولا تكون في المواضع التي يتعين فيها التوقيف، كأسماء الله وصفاته، والبعث والجزاء، والعبادات المحضة، والمقدرات كالمواريث وأنصبة الزكاة، فإن المصلحة المرسلة لا يمكن أن يستدل بها على ثبوت عبادة أو زيادة فيها أو نقص شيء منها.
فحقيقة التعبديات المحضة ونحوها أنها لا يعقل معناها على التفصيل، وهذا هو السر في اعتبار المصالح المرسلة في العادات والمعاملات ونحوها دون العبادات المحضة ونحوها، بالإضافة إلى أن العبادات حق خاص للشارع، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا وهيئة إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له، ولهذا لم يكل شيئا من العبادات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، بينما تهتدي العقول البشرية في الجملة إلى معرفة حكم وعلل ومعاني العادات والمعاملات، ولذلك جاز دخول المصالح في هذا دون ذاك.
٤ - أن ترجع إلى حفظ أمر ضروري فتكون من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو ترجع إلى رفع الحرج فتكون من باب التخفيف فمثلا جمع القرآن حفظ للشريعة بحفظ أصلها، وكتابته سد لباب الاختلاف فيه، وتضمين الصناع لحفظ الصنعة والمال، وجواز الحبس والضرب في التهم للاحتيال لحفظ المال وهكذا ...
٥ - أن تكون المصلحة حقيقية لا متوهمة، فالمصلحة المتوهمة لا ينظر إليها، ومثالها: ما يتوهمه بعض الناس من أن التسوية بين الرجل والمرأة في الإرث فيه مصلحة، وهي ترغيب الكفار في الإسلام، ومن ذلك: ما يتوهمه البعض من أن العمل بالقوانين الوضعية المستوردة فيه مصلحة وهي التسوية بين الناس في الحقوق والواجبات.
وهؤلاء وأولئك غفلوا عن أن خالق الناس أعلم بما يصلحهم وما يناسبهم، وأن ترغيب الكفار في الإسلام بترك فرض من فرائضه مفاسده أعظم مما يتوخى فيه من مصلحة، وما في القوانين الوضعية من المصالح يمكن تحصيلها من الشريعة على وجه أكمل.