للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

١ - الإنسان الغربي بدأ مشروعه التحديثي بالنزعة الإنسانية التي همشت الإله ووضعت الإنسان في مركز الكون، إلا أنها شأنها شأن أية فلسفة مادية ترى أن الإنسان هو إنسان طبيعي/ مادي، يضرب بجذوره في الطبيعة/ المادة، لا يعرف حدودا أو قيودا، ولا يلتزم بأية قيمة معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاته، ولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم سواه، ولا يمكن تجاوزه.

٢ - إنه بدلا من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض، وبدلا من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض.

وبدلا من ثنائية الإنسان الطبيعية/ المادة، وتأكيد أسبقية الأول على الثاني، تظهر ثنائية الإنسان الأبيض في مقابل الطبيعة/ المادة وبقية البشر الآخرين، وتأكيد أسبقيته وأفضليته عليهم، وبدلا من الاحتكام للقيم الإنسانية تستخدم القوة ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها (١) وتوظيفها لحسابه واستغلالها.

كل هذا دفع المسيري إلى القول بأن العلمانية الشاملة هي النظرية، والامبريالية هي الممارسة.

وقد تابعه على هذا الرأي الطعان في دراسته. ويؤكد ذلك أن العلمانية لما هيمنت على الحياة والمجتمعات والدول في القرن التاسع عشر سال لعابها على قهر المجتمعات والدول الضعيفة، فاكتسح العلمانيون والحداثيون دول أوروبا وآسيا وعاثوا فيها فسادا ونهبا وقتلا وتشريدا وتجويعا وإبادة جماعية. فالثورة الفرنسية مثلا التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة هي التي أرسلت جيوشها الاستعمارية لقهر الآخر وإذلاله واستعباده.

إذن العلمانية فلسفة لها نظرة معينة للكون والإنسان والمستقبل.

لهذا وصف المفكر الأمريكي اليهودي العلمانية بأنها رؤية دينية، لأنها تحتوي على مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقية لاهوتية.

وفي هذا الدين (العلماني) يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها (تأليه الإنسان) كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها وأن يوظفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني (٢).

وقد قارب فهمي هويدي تقسيم المسيري العلمانية إلى جزئية وشاملة، فقسمها إلى معتدلة ومتطرفة (٣).

وعند هويدي العلمانيون المتطرفون ليسوا ضد الشريعة فحسب، بل ضد العقيدة أيضا، ولذا فهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب حلها بالانتهاء منها وتجفيف ينابيعها لاستئصالها.

وزعم أن المعتدلين ليس لديهم مشكلة مع العقيدة، فهم يعتبرون أن الدين الإسلامي حالة يمكن التعايش معها.


(١) أي: جعلها وسيلة.
(٢) العلمانية تحت المجهر (٢٤٤).
(٣) المفترون (٦ - ٢٦٧ - ٢٦٩ - ٢٧٠) والعلمانية تحت المجهر والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (١٢٢).
وقد أنكر عدد من العلمانيين وجود علمانية متطرفة، منهم أحمد عصيد. قدر العلمانية في العالم العربي (١٧١).

<<  <   >  >>